اقتصاديات الكربون… التحليل والتحديات والفرص

Oct 03, 2024

تعتبر قضايا التغير المناخي وأثر انبعاثات الكربون من أكثر القضايا الملحّة في عصرنا الحالي، إذ تواجه الحكومات والشركات والأفراد تحديات متعددة تتعلق بكيفية إدارة انبعاثات الكربون وتحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والحفاظ على البيئة.

وتُشير اقتصاديات الكربون إلى كيفية تأثير انبعاثات الكربون على الاقتصاد، وكيف يمكن إدارة هذه الانبعاثات لتحقيق التنمية المستدامة، حيث تتضمن الاقتصاديات المتصلة بالكربون عدة جوانب، منها تكلفة الكربون التي تُمثل قيمة الأضرار البيئية الناتجة عن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وآلية تُحدد سعرا محدّدا لانبعاثات الكربون، ما يُشجع الشركات على تقليل انبعاثاتها، كما تشمل أنظمة مثل نظام التجارة في الانبعاثات (ETS) الذي يسمح بتداول حقوق الانبعاثات.

وتواجه الحكومات مجموعة من التحديات المرتبطة باقتصاديات الكربون، منها القيود الاقتصادية، والتي تشمل التكلفة الأولية، إذ قد تتطلّب تقنيات الطاقة المتجددة والاستثمارات في الكفاءة الطاقية تكاليف أولية مرتفعة، ما يجعل من الصعب على الشركات الصغيرة والمتوسطة تبنّي هذه التقنيات، كما أن هناك مخاوف من أن التشديد على تقليل الانبعاثات قد يؤثر سلبا على النمو الاقتصادي.

ومن التحديات المهمة السياسات الحكومية، والتي تختلف عالميا في مجال تنظيم انبعاثات الكربون، إضافة إلى عدم التناسق في السياسات بين الدول، ما يؤدي إلى عدم تكافؤ الفرص عبر استغلال بعض الدول انبعاثات الكربون الرخيصة، فضلا عن تداخل المصالح الاقتصادية والسياسية في العديد من الحالات، ما يجعل من الصعب على الحكومات اتخاذ قرارات جريئة بشأن انبعاثات الكربون.

أما التحدي الآخر فهو الوعي حول قضايا التغير المناخي، إذ لا يزال هناك تحديات تتعلق بمفهوم الكربون، وجهل واسع النطاق حول كيفية تأثير انبعاثات الكربون على البيئة والاقتصاد، فيما تفتقر العديد من المجتمعات إلى الحوافز للمشاركة في المبادرات البيئية، ما يعيق الجهود الرامية إلى تقليل انبعاثات الكربون.

كما يُعد تسعير الكربون أحد الأدوات الرئيسية المستخدمة لتحفيز تقليل الانبعاثات، ويشمل ذلك فرض الحكومات ضرائب على انبعاثات الكربون، ما يُحفز الشركات على تقليل انبعاثاتها، والسماح للشركات بتداول حقوق الانبعاثات، ما يُعزز من كفاءة التكاليف.

وفيما تُتيح أسواق الكربون العالمية للدول والشركات تبادل حقوق الانبعاثات، ما يُوفر حوافز مالية لتقليل الانبعاثات، تُعد هذه الأسواق جزءا أساسيا من الجهود العالمية لمكافحة التغير المناخي، مثل اتفاقية باريس.

وتتضمن اقتصاديات الكربون أيضا الاستثمار في التقنيات الخضراء والطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، التي تُعد بديلا نظيفا عن الوقود الأحفوري، بالإضافة إلى تحسين استخدام الطاقة في المنازل والشركات.

كما تُمثل قضايا الكربون فرصة كبيرة للابتكار التكنولوجي، الذي يشمل تطوير تكنولوجيا جديدة للطاقة المتجددة والتقنيات المستخدمة في تقليل انبعاثات الكربون، واستخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات المتعلقة بالانبعاثات وتحسين كفاءة استخدام الطاقة.

ويمكن أن تُسهم تقنيات الاقتصاد الأخضر في خلق فرص عمل جديدة، إذ تُشير التقديرات إلى أن التحوّل إلى اقتصادات منخفضة الكربون يمكن أن يخلق ملايين الوظائف في مجالات عدّة، مثل الطاقة المتجددة والبناء الأخضر.

كما يؤدي تقليل الانبعاثات إلى تحسين جودة الهواء، ما ينعكس إيجابا على الصحة العامة، حيث تُشير الأبحاث إلى أن تقليل انبعاثات الكربون يُقلل من معدلات الأمراض المرتبطة بالتلوّث.

وتُشير الدراسات إلى أن التغير المناخي يمكن أن يؤثر على الإنتاجية في مختلف القطاعات، إذ يتسبّب ارتفاع درجات الحرارة وتغير أنماط الأمطار في تقليل الإنتاج الزراعي، ما يؤثر على الأمن الغذائي.

وتتضمن التكلفة الاقتصادية للتغير المناخي العديد من الأضرار البيئية الناتجة عن الكوارث المناخية، مثل الفيضانات والجفاف، وتتطلب التغيرات المناخية استثمارات إضافية في البنية التحتية للتكيّف مع هذه الكوارث.

وهناك أمثلة عدّة على السياسات الناجحة في هذا المجال، منها تجربة السويد التي تعتبر نموذجا ناجحا في تسعير الكربون، حيث فرضت ضريبة على الكربون منذ عام 1991، ما أسهم في تقليل الانبعاثات بنسبة 25% في العقدين الماضيين، بينما شهدت البلاد نموا اقتصاديا قويا.

وكذلك تجربة كاليفورنيا، إذ تُعتبر هذه الولاية الأميركية رائدة في جهود مكافحة التغير المناخي، حيث أنشأت نظام تجارة في الانبعاثات وأطلقت برامج طموحة للطاقة المتجددة، ما أدّى إلى تقليل الانبعاثات وتحقيق التنمية المستدامة.

أما فيما يتعلق بالتوجهات المستقبلية، فمع زيادة الوعي العالمي حول التغير المناخي، فإن هناك اتجاه نحو الالتزام بتقليل انبعاثات الكربون، وقد أظهرت العديد من الدول استعدادها لتحقيق أهداف صفر انبعاثات بحلول عام 2050.

ويُمثل التعاون الدولي عنصرا أساسيا في التصدي للتغير المناخي، إذ تتطلّب التحديات الكبيرة مثل التغير المناخي استجابة منسّقة من جميع الدول، تشمل تبادل المعرفة والتكنولوجيا بين الدول المتقدمة والنامية.

ختاما، يُمثل اقتصاديات الكربون مجالا معقدا يتطلّب تكامل الجهود من مختلف الأطراف المعنية، إذ أن إدارة انبعاثات الكربون ليست مجرّد مسألة بيئية، بل هي مسألة اقتصادية واجتماعية أيضا، وتحتاج الدول والشركات إلى الابتكار والتعاون لوضع سياسات فعّالة تؤدي إلى تقليل الانبعاثات وتحقيق التنمية المستدامة.

إن الفرص المتاحة في هذا المجال واعدة، ولكنها تتطلّب التزاما قويا ورؤية واضحة للمستقبل، فمن خلال التحوّل إلى اقتصادات منخفضة الكربون، يمكن للعالم أن يضمن مستقبلا أكثر استدامة للأجيال القادمة.

بقلم: جاسم الفلاحي – رأي اليوم