حتمية التكيف مع تغير المناخ

Aug 31, 2024

تميل المناقشات الدائرة حول سياسة المناخ إلى التركيز على الحدّ من الانبعاثات الغازية المسبّبة للانحباس الحراري، وهذا أمر منطقي، خاصة وأن هذه الغازات هي السبب الرئيسي وراء تغير المناخ، ولكن من المتوقع أن يستمر الاحتباس الحراري حتى في ظلّ السيناريوهات الأكثر تفاؤلا، وهذا يعني ضمنا الحاجة الملحة إلى استراتيجيات شاملة للحدّ من التكاليف الاقتصادية والمخاطر التي تهدد السلامة العامة، والتهديدات الصحية المرتبطة بأزمة المناخ المتصاعدة.

ومن المُسَلّم به أن التكيّف وحده لا يمكنه أن يُعوض أسوأ آثار تغير المناخ، ولا بد من تكثيف الجهود الحالية للحدّ من الانبعاثات الغازية المسبّبة للاحتباس الحراري، ولكن تجاهل الحاجة إلى تطوير وتنفيذ استراتيجيات لحماية الشركات والأُسر والمجتمعات من العواقب الحتمية المترتبة على تزايد ارتفاع حرارة كوكب الأرض، هو تصرّف غير مسؤول.

وتُشكل الحماية من الفيضانات مثالا رئيسيا هنا، فمع تزايد تكرار الفيضانات وشدّتها، أصبحت استعادة السهول الفيضية وغير ذلك من التدابير الاستباقية متزايدة الأهمية، ويجب أن يلعب التكيّف الطويل الأمد أيضا دورا محوريا في مشاريع إعادة البناء بعد الكوارث، فبدلا من إصلاح المنازل المتضرّرة مرارا وتكرارا، على سبيل المثال، قد يكون من الحكمة إعادة بنائها في مناطق أقل عُرضة للفيضانات.

ولن تكون جهود التكيّف فعّالة إلا بقدر فعّالية الآليات المستخدمة لتمويلها، ففي حين يدعم كثيرون من دافعي الضرائب تمويل جهود إعادة البناء، فإن القيام بذلك من شأنه أن يخلق الحوافز للبناء في المناطق المعرّضة للخطر، لذا من الأفضل بدلا من ذلك إنفاق هذه الأموال على التدابير التي تحمي المجتمعات من الفيضانات في المستقبل، وليس فقط بناء مساكن جديدة في مناطق أكثر أمانا، بل وأيضا الاستثمار في البحوث والابتكارات الموجّهة بغرض مساعدة القطاعات المتضرّرة من تغير المناخ، خاصة الزراعة، على التكيّف مع التهديد.

كما تُؤكد موجات الحرّ المتزايدة على الحاجة الملحة إلى تدابير التكيّف، فبالرغم من أن درجات الحرارة المرتفعة غير المسبوقة تفرض مخاطر صحية كبرى، خاصة على كبار السن والنساء الحوامل والأشخاص الذين يعانون من حالات مرضية سابقة، فإن بلدانا (ألمانيا) لا تزال عازفة عن الاستثمار في أنظمة تكييف الهواء وغير ذلك من أساليب التبريد التي لا تتطلّب الوقود الأحفوري، ويمكن تشغيلها بالطاقة الشمسية المتوفرة بكثرة خلال فترات ارتفاع الحرارة. كما أن الحرارة الشديدة خطيرة بشكل خاص على العاملين في العراء، وهذا يُسلط الضوء على الحاجة إلى تحديث قوانين الصحة والسلامة المهنية، إذ يجب إلزام الشركات باتخاذ التدابير اللازمة لحماية موظفيها، مثل توفير المناطق المظلّلة والوصول إلى مياه الشرب.

ولأن أصحاب الدخل المنخفض يعملون غالبا في ظروف عالية الخطورة، فإن التكيّف مع المناخ يوفر فوائد اجتماعية بعيدة المدى، إلا أن القدرة على تنفيذ مثل هذه التدابير تقتصر إلى حدّ كبير على البلدان التي تتمتع بالموارد المالية والخبرة الفنية الكافية. وفي غياب استراتيجيات التكيّف وآليات التمويل المناسبة، سيتحمّل الأفراد الفقراء والمجتمعات الفقيرة وطأة تغير المناخ على نحو غير متناسب، وسوف يؤدي هذا إلى تعميق أشكال التفاوت الاقتصادي والاجتماعي على المستويين المحلي والعالمي.

ومن المؤكد أن جهود التكيّف تواجه عقبات عديدة، بما في ذلك انعدام اليقين بشأن مسار تغير المناخ في المستقبل والتكاليف المرتفعة المرتبطة بتعديل الهياكل والعمليات القائمة. وعلاوة على ذلك، قد تتسبّب ندرة المعلومات حول تدابير التكيّف الفعّالة وكيفية تنفيذها ضمن الأطر القانونية القائمة في رفع التكاليف، وكل هذا من شأنه أن يؤدي إلى تثبيط الاستثمار في التكيّف، خاصة وأن الفوائد قد لا تتحقق إلا في الأمد المتوسط إلى البعيد. ومع ذلك، يتعيّن على الحكومات ومؤسسات القطاع الخاص أن تعمل على جعل جهود التكيّف مع المناخ أولوية قصوى. ومن خلال توقّع المخاطر واتخاذ خطوات استباقية لتعديل عملياتها، يُصبح بوسع الشركات خفض تكاليف التنفيذ.

وفي الوقت ذاته، يتعيّن على صناع السياسات الاستثمار بكثافة في تشييد البنية الأساسية المرنة القادرة على الصمود، ودعم البحوث والإبداع، ونشر المعلومات الحيوية على الأُسر والشركات والسلطات المحلية لمساعدتها على التأهب لمختلف التحديات المرتبطة بالمناخ، بما في ذلك الفيضانات، وموجات الحرّ، وغيرها من الأحداث الجوية القاسية.

إن التكيّف ليس مجرّد ضرورة عملية، بل هو حتمية أخلاقية. وعلى الرغم من أهمية الحدّ من الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري، فإن جهود التكيّف مهمة بذات القدر لضمان عدم تحمل السكّان الأكثر ضعفا في العالم وطأة التأثيرات الأشدّ تدميرا المترتبة على تغير المناخ. وبوضع تدابير التكيّف في قلب سياسات المناخ، إلى جانب جهود التخفيف، يُصبح بوسعنا خلق مستقبل مرن وعادل.

بقلم: كليمنس فويست وماريا والدينجر، جريدة عُمان