كيف تعامل العرب قديما مع حرارة الصيف؟

Aug 19, 2024

قد تكون الحياة بدون تكييف الهواء غير مريحة أو خطيرة في بعض مناطق العالم، ولكن كيف كانت الحياة بالنسبة لأسلافنا قبل الحداثة وكل التغييرات والتطوّرات التي طرأت على أسلوب حياتهم؟ وكيف تعامل هؤلاء مع مثل هذه الحرارة المفرطة دون الاستعانة بمكيفات الهواء أو حتى المراوح الكهربائية؟

ابتكارات من البيئة المحيطة

قبل عصر الكهرباء، وبالنسبة لشعوب كانت وسائلها قليلة وبدائية، كانت الاختراعات والابتكارات المعمارية والشخصية الصديقة للبيئة والإنسان على حدّ سواء في أفضل حالاتها، فقد استُخدمت بذكاء ميكانيكا الموائع والديناميكا الحرارية للحفاظ على البرودة في المناخات الحارّة، ليس فقط في القصور المهيبة، ولكن في المنازل العادية أيضا.

ولعلّ أبسطها طريقة التبريد من خلال فتح النوافذ والأبواب لإدخال الهواء البارد إلى غرفة معينة في فصل الصيف، ما يُؤدّي إلى خفض درجة الحرارة، وكذلك إحضار الجليد من الأماكن الجبلية المرتفعة، وبناء المنازل عبر الصخور أو تحت الأرض، أو بناؤها من الخشب والطين المعروفين بكونهما مادتين طبيعيتين عازلتين للحرارة.

كما لجأ القدماء إلى تقنيات التبريد الذاتية لخفض حرارة الجسم بصورة أفضل، مثل الاستحمام بالماء البارد، والسباحة، وتبليل الثياب بالماء، والتلويح باليد على الوجه أو باستخدام مروحة يدوية، وتبريد مناطق النبض مثل المعصمين وجوانب الرقبة باستخدام الماء أو حتى قطعة قماش مُبلّلة.

واستخدم قدماء المصريين والإغريق والرومان الحصائر الرطبة لتبريد الهواء الداخلي، حيث قاموا بتعليقها فوق فتحات أبواب منازلهم. وكان الناس في العراق يفعلون ذلك أيضا، حيث يُعلّقون حُصرا مُبلّلة تتدلّى على فتحات النوافذ من الخارج من أجل تبريد الهواء بفعل التبخر، إذ تُؤدّي ظاهرة التبريد التي تنجم عن تبخير المياه إلى مضاعفة برودة الهواء.

وعندما نلاحظ ملابس الشعوب العربية التقليدية، نجد أنه عبر التاريخ، وفي شبه الجزيرة العربية، لجأ القدماء إلى توظيف الملابس، خاصة تلك المصنوعة من مواد طبيعية مثل القطن، في مكافحة الحرارة والشمس.

ومن المعروف أن العرب كانوا يرتدون أربع طبقات على الأقل من الملابس خلال ذروة الصيف، تُغطّي أجسادهم من الرسغ إلى الكاحل، ويشمل ذلك الرجال والنساء والأطفال، وبهذه الطريقة حَموا أجسادهم من أشعة الشمس الحارّة، ومن شدّة الجفاف.

كما أضاف العرب والمسلمون قديما بعض قطع القماش إلى الملابس لوقايتهم من الحرّ، مثل العمامة، وهي أحد أغطية الرأس الشهيرة على مدى قرون طويلة، وكانوا يصبغونها بالحمرة أو الصفرة، وغلبت على شكلها طريقة التكوير واللفّ، ووصفها أبو الأسود الدؤلي، الملقب بملك النحو، بأنها ”جُنّة في الحرب، ومكنة من الحرّ، ومِدفأة من القر، ووقار في الندى، وواقية من الأحداث، وزيادة في القامة، وهي عادة من عادات العرب“.

ذكاء معماري

وعرفت الحضارة العربية طرقا كثيرة للتهوية والتكييف، ودمجت هذه العناصر في البنية السكنية بهدف توفير الراحة الحرارية للسكّان كل حسب قدرته وإمكانياته.

وكانت ألواح الجالي -التي حلّت محل النوافذ- أبرز الطرق في مواجهة الحرّ الشديد، وهي فن إسلامي يُضفي تصميمه المعقد جاذبية جمالية، واشتهر من المغرب إلى الهند في بداية القرن الثالث عشر، وأسهمت هذه التقنية الفيزيائية في تعديل الضوء ومنع دخول الشمس والمطر وتبريد الهواء عند دخوله عبر ثقوبها الزخرفية المصممة على طريقة ”أنابيب فنتوري“، حيث تعمل على تضييق منافذ دخول الهواء لإبطاء تدفقه، وبذلك تقلّ حرارته ويصل إلى المساحة الداخلية للمنزل بدرجة حرارة مريحة.

وفي حين كانت ألواح الجالي المعقدة مقتصرة على النخبة، كانت الأُسر العادية تستخدم الحُصر المصنوعة من ألياف النباتات مثل القصب والخوص وغيرها، وكانت تفترشها بعد أن تُبلّل بالماء لتخفيف درجة الحرارة على الأرض، ولم تكن أفضل غطاء للأرضيات في وقت الصيف فحسب، بل كان القدماء يقطرون الماء عليها للوصول إلى تبريد الهواء من خلال تبخر المياه.

كما تميّزت العمارة العربية والإسلامية في معظم الدول العربية بوجود أجزاء خشبية بارزة في البناء الأساسي، تُسمّى المشربيات أو الرواشين، التي استمر استخدامها منذ العصر العباسي حتى أوائل القرن العشرين، والتي تتحكم في حركة الهواء من الداخل إلى الخارج بكل سلاسة ويُسر، وأثبت استخدامها فاعلية كبيرة في الوصول إلى بيئة داخلية مريحة رغم شدّة الحرارة في الخارج.

الملاقف… نظام تبريد طبيعي

في الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية بشكل خاص، كانت درجات الحرارة دائما شديدة خلال أشهر الصيف، وبسبب عدم وجود مكيفات الهواء والمراوح في الماضي، كان المهندسون يضعون الاعتبارات المناخية نصب أعينهم عند تحديد موقع البناء وشكل تصميمه والمواد المستخدمة فيه، وثمّة أدلة تُشير إلى حدوث تطوّر في طريقة اقتناص الرياح وتوجيهها داخل المنازل بهدف تكييفها وتبريدها بشكل أفضل من الاعتماد على فتح النوافذ والأبواب.

وكانت الملاقف الهوائية أو أبراج الرياح أحد أهم هذه العناصر المميزة في المباني، وقد أولاها مهندسو البناء، قديما وحديثا، اهتماما خاصّا، وكان لها دور فعّال في تكييف وتهوية الأبنية، خصوصا في المناطق الحارّة.

ويُعرف الملقف بأنه مهوى يقع في أعلى المبنى، له فتحات مقابلة لاتجاه هبوب الرياح، تقوم باقتناص الهواء المار فوق المبنى ودفعه إلى الداخل، وعند ذلك يتدفق الهواء البارد تحت الهواء الدافئ، ثم يُؤدّي الضغط إلى رفع الهواء الدافئ إلى الأعلى ليخرج من برج آخر في الجهة المقابلة.

وتتعدّد أشكال وأنواع الملاقف، ويتخذ الشائع منها شكل المكعب أو متوازي المستطيلات أو الأسطواني، لكن توجد أنواع أخرى مثل المخروطي والحائطي والمثلث، وهذا الأخير مُجوّف لا تزيد قاعدته وارتفاعه عن متر، ويُشيّد فوق السطح العلوي للمنزل، ويُفتح من ناحية الشرق، ويرتبط في نهايته بمجرى داخلي مُوجّه نحو السرداب.

وانتشرت هذه التقنية بأشكال متعددة في مناطق واسعة من العالم الإسلامي، خصوصا في شبه الجزيرة العربية والعراق ومصر، وهذا يدل على معرفة العرب والمسلمين بعملية ضبط التهوية، التي تعني في جوهرها التحكم في مستوى الرطوبة النسبية في الهواء الداخل، ما ينجم عنه شعور بالبرودة.

مبانٍ أكثر برودة

اليوم، أصبح هدير مكيف الهواء حولنا صامتا، واعتاد الناس على ذلك لدرجة أنهم لا يفكرون فيه على الإطلاق باعتباره ظاهرة غير طبيعية، ومصدرا للتلوّث على العديد من الجبهات، البصرية والبيولوجية والبيئية.

ومع ارتفاع حرارة الكوكب، يستخدم المزيد من الناس مكيفات الهواء داخل منازلهم وأماكن عملهم للحفاظ على البرودة، لكن تشغيل هذه المكيفات يستهلك قدرا كبيرا من الطاقة، حيث يُمثّل تبريد المباني 10% من استهلاكنا العالمي للكهرباء المنتجة في أغلب أنحاء العالم بالوقود الأحفوري.

وإضافة إلى ذلك، تعمل مكيفات الهواء على تبريد المساحات الداخلية عن طريق دفع الحرارة التي تمتصها المبرّدات، وهذا يعني أنها تجعل المناطق المحيطة المباشرة والأماكن المفتوحة أكثر سخونة أيضا، وتزداد الحاجة إلى استخدام المكيفات لخفض الحرارة في الأماكن المغلقة، ما يعني انبعاثات تُؤدّي بدورها إلى تسريع ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي.

لذلك، يُشتَهر اليوم مصطلح ”الجزر الحرارية الحضرية“، وهو يعني أن المدن تكون أسخن نسبيّا من المناطق المحيطة بها بفعل التدخل البشري الذي يتمثل في استخدام الخرسانة التي تمتص الحرارة وتحتفظ بها، وهناك أيضا الكثير من الحرارة المهدرة من الأنشطة البشرية، مثل المكيفات والسيارات والمصانع، التي تزيد ارتفاع درجات الحرارة في تلك المناطق.

وفي العديد من البلدان التي تمر بطفرة في البناء، غالبا ما تبدو المباني الجديدة أشبه بالصندوق الزجاجي، حيث يميل القائمون عليها إلى بنائها بزجاج من الأرض إلى السقف، وهذه مشكلة حقيقية لأن كل مبنى يُوضع فيه زجاج يتحوّل إلى صندوق ساخن.

وقد يكون للهندسة الحضرية دور كبير في التخفيف من هذه الظاهرة السلبية وآثارها البيئية والاجتماعية الخطيرة من خلال مجموعة من الخطوات، مثل إنشاء ممرات للرياح بهدف التهوية، وزيادة المسطحات الخضراء المليئة بالأشجار الظليلة والنباتات الأخرى التي تكون بمثابة رئات تنفس في المدن، كما أن تقليل الحرارة المنبعثة من وسائل النقل يُحدِث فرقا أيضا، وقد تبقى هناك حاجة إلى استخدام مكيفات الهواء في بعض الأحيان، ولكن بدرجة أقل بكثير.

ومع زيادة فواتير الطاقة، من الطبيعي أن يلجأ المصممون إلى البدائل المستدامة التي استخدمها أسلافنا ذات يوم، ولهذا السبب يُعيد المهندسون اليوم تصميم المباني التي لا تعتمد على مكيفات الهواء الحديثة، تلك التكنولوجيا التي سمحت للمبتكرين في الهندسة المعمارية والتخطيط الحضري بالتخلّي عن مسؤولياتهم في تصميم المباني.

وهناك حلول أخرى، بعضها تقليدي وبعضها حديث، قد تُؤدّي دورها في إعادة التوازن البيئي لتلك الجزر قدر الإمكان، منها تقليل المساحات الداكنة في الشوارع والأسطح الإسمنتية واستخدام الألوان الفاتحة في دهان المباني لتعكس الحرارة.

وتُعيد بعض البلدان هذا النهج من خلال طلاء الأسطح والهياكل بطبقة بيضاء من الجير يُعرف بـ”العزل الحراري“، الذي يمكن أن يُقلّل من درجات الحرارة الداخلية ما بين 2 إلى 5 درجات مئوية.

ومن الوسائل القديمة الأخرى ”التظليل الخارجي“ الذي يحجب أشعة الشمس الحارّة القادمة خلال فترة ما بعد الظهر، وهذا يُقلّل من وصول الحرارة إلى الأسطح الخارجية للمنزل (النوافذ والجدران الفارغة)، ويُحافظ على الواجهة باردة في الأجواء الحارّة، كما يمنع العزل الحرارة من الانتقال عبر السقف.

وهذه الطرق يمكن أن تُقلّل درجات الحرارة الداخلية بنحو 5 درجات مئوية، كما يمكن لمراوح السقف أن تساعد على توزيع هذا الهواء البارد، ومن المثير للاهتمام أن حصائر القصب لا تزال تُستخدم في زخرفة العديد من المنازل الحديثة.

المصدر: الجزيرة