الاقتصاد الدائري… نموذج إنتاج واستهلاك مستدام يحمي الأرض

Jul 05, 2024

يُواجه كوكب الأرض اليوم تحدّيات متعدّدة في سياق التأثيرات البيئية المُلحّة، مثل تغير المناخ وفقدان التنوع البيولوجي والتلوّث البيئي.

وعلى الرغم من غِنى الموارد الطبيعية في كوكبنا، فإن التقديرات تُشير إلى أن الأرض وصلت الآن إلى حدودها القصوى في استخدام هذه الموارد نتيجة سوء الاستغلال والتوزيع غير العادل لها، وإهدار كميات كبيرة منها خارج دورة الاستهلاك.

ويستهلك اقتصادنا الحالي الموارد المحدودة لكوكب الأرض، ويُحوّلها إلى منتجات ينتج عنها كميات لا تنتهي من النفايات اعتمادا على نهج خطي قائم على مبدأ ”خذ ثم اصنع ثم تخلّص“، ويتمثّل في الحصول على المواد الخام واستخراجها، واستخدامها لتصنيع منتجات، وبيع هذه المنتجات للمستهلك، الذي يتخلّص منها بعد ذلك كنفايات بعد استخدامها لمرة واحدة، وهو نظام ملوّث يؤدي إلى تدهور النظم البيئية وندرة الموارد، وهو المحرّك للتحديات العالمية، بما في ذلك تغير المناخ وفقدان التنوع البيولوجي.

ولقد وضعت الثورة الصناعية الإطار لهذا الاقتصاد الخطي، وأتاحت من خلاله إنتاج البضائع بكميات كبيرة وبأسعار منخفضة، وبدا الأمر في البداية وكأن المواد الخام والطاقة لا نهاية لهما فعليا.

ويُشكّل ”التقادم المخطط له“ أبرز ملامح نهج الاقتصاد الخطي، حيث تُصمّم منتجات ذات عمر قصير ومحدود لتشجيع المستهلكين على شرائها مرة أخرى.

والتقادم المخطط له يُمثّل استراتيجية عمل يُخطّط فيها لتقادم المنتَج، أي أنه أصبح غير عصري أو لم يعد قابلا للاستخدام منذ تصميمه من قبل الشركة المصنّعة، بحيث يشعر المستهلك في المستقبل بالحاجة إلى شراء منتجات وخدمات جديدة تُقدّمها الشركة المصنّعة كبديل للمنتجات والخدمات القديمة، وبالتالي تعزيز الطلب، وضمان التصنيع السنوي لنفس المنتَج مع تغييرات طفيفة للاحتفاظ بقاعدة عملائها.

وغالبا ما يتفاعل المستهلكون بشكل سلبي مع التقادم المخطط له، خاصة إذا كانت الأجيال الجديدة من المنتجات تُقدّم تحسينات غير كافية مقارنة بالإصدارات السابقة. وعلى الرغم من ذلك، قد تلقى هذه الاستراتيجية قبولا من المستهلكين حيث تستخدم الشركات التقادم المخطط له أيضا كوسيلة لخفض التكاليف وخفض سعر منتجاتها وزيادة شعبيتها.

وتستخدم شركات تكنولوجيا المعلومات التقادم المخطط له لتقليل دورة استبدال الأجهزة الإلكترونية الشخصية، مثل الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب، من خلال طرح أجيال جديدة من البرامج وأنظمة التشغيل أقل توافقا مع الأجهزة القديمة، وتصميم البرامج لتشمل ميزات وأنواع ملفات جديدة غير متوافقة مع الإصدارات القديمة من البرنامج.

ويتطلّب تصحيح هذا المسار غير المستدام نقلة نوعية في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية تتمثّل بنموذج أكثر استدامة هو الاقتصاد الدائري، وذلك من خلال فصل النشاط الاقتصادي عن استهلاك الموارد المحدودة.

ويقوم الاقتصاد الدائري على أُسس التخفيض وإعادة الاستخدام وإعادة التدوير، ويُقدّم نموذجا مختلفا للنشاط الاقتصادي التقليدي من خلال إعطاء الأولوية للحفاظ على المنتجات قيد الاستخدام لأطول فترة ممكنة.

وكما يُوحِي اسمه، فإن جوهر هذا النموذج هو الاحتفاظ بالموارد في الاقتصاد لأطول فترة ممكنة، وتقليل توليد النفايات إلى الحدّ الأدنى اعتمادا على تصميم منتجات مُعمّرة ومتينة وقابلة للإصلاح والترقية، وإعادة تصنيع المنتجات باستخدام المواد الخام الثانوية والنفايات المستخرجة من المنتجات الحالية، وإعادة تدويرها إلى منتجات جديدة، وتفكيك المنتجات البالية وإصلاحها وإعادة طرحها في الأسواق، ما يُؤدّي إلى تمديد دورة استخدامها، وتوفير المواد الخام، وبالتالي خلق قيمة إضافية.

وتتمثل هذه القيمة الإضافية للمنتجين في تقليل تكاليف شراء المواد الخام لتصنيع منتجات جديدة، حتى لو استُخدمت المزيد من المواد لجعل المنتجات أكثر متانة. أما بالنسبة للمستهلكين فهي الوصول إلى السلع بأسعار أقل، وتشمل الفوائد التي تعود على البيئة والمجتمع في انخفاض انبعاثات الغازات الدفيئة، وتقليل النفايات واستعادة النظم البيئية.

وتستخدم المدخلات المتجدّدة أو المعاد تدويرها أو القابلة لإعادة التدوير بشكل كبير في عمليات الإنتاج ضمن نموذج الاقتصاد الدائري، ما يُتيح التخلص الجزئي أو الكلي من النفايات والتلوّث، أي تُصبح النفايات أحد الأصول وليست التزاما يدفعه المنتجون مقابل التخلّص منها.

ويُمكن للمصنّعين الدائريين أن يتوقعوا تكاليف أقل لمدخلات الإنتاج الخاصة بهم حيث لا يلزم استخراجها من الموارد النادرة، فهي تأتي من المواد الزائدة والمواد المعاد تدويرها.

ولا تصل المنتجات المصمّمة بشكل دائري إلى نهاية عمرها الافتراضي، بل تصبح نهاية الاستخدام الحالي حلقة ومُدخلا لحلقة تالية.

فعلى سبيل المثال، من الأفضل إعادة تدوير الإطارات المستعملة وتحويلها إلى بلاط أرضيات مطاطي أو قطع غيار سيارات، عوضا عن تصديرها إلى دول فقيرة أو رميها في مساحات واسعة من الأراضي تُؤدّي إلى زيادة أزمات التلوّث في العالم، وعندما يصل الإطار إلى مرحلة إعادة التدوير تُستخرج جميع مواده الأصلية وتُستخدم لإنتاج إطارات جديدة.

وعلى مدى العقود الماضية، ركّز المنتجون والمصنّعون على بيع منتجاتهم لمرة واحدة، حيث تنتقل ملكية المنتَج من المنتِج إلى العميل، وهو الأمر الذي يحدّ من مسؤولية المنتجين عن بقية عمر المنتَج.

ويحصل المنتجون في مثل هذا النموذج على أكبر قدر من الفائدة من خلال بيع أكبر قدر ممكن من المنتجات، دون أن يكون لديهم حافز لتحسين الجودة والعمر، أو قابلية الإصلاح وإعادة التدوير، وهو ما يُؤدّي في بعض الحالات إلى تأثيرات عكسية مثل التقادم المخطط له، وإنتاج كميات زائدة من المنتجات، وانخفاض جودتها.

وعلى العكس من ذلك، تتمتع نماذج المنتَج كخدمة بالقدرة على تقديم بديل أكثر ذكاء واستدامة لهذا الاستهلاك كثيف المواد. وعوضا عن بيع منتجات مستقلة للعملاء، تُركّز نماذج أعمال المنتَج كخدمة على النتائج والأداء بدلا من المنتَج نفسه، ويظل مُقدّم الخدمة في الغالب هو مالك المنتَج.

ولهذا السبب، يُمكن أن يكون لدى مُقدّم الخدمة الحافز لاستخدام نفس المنتجات أو المكونات قدر الإمكان وأطول فترة ممكنة من خلال إعادة تصميم المنتَج أو إعادة استخدامه أو إصلاحه أو مشاركته.

وتعتبر خدمات التخزين السحابي مثالا جيدا على تقديم المنتَج كخدمة، إذ لن تحتاج الشركات لشراء وسائط تخزين كبيرة ومكلفة أو تتعرّض للتلف والاستبدال فيما بعد طالما يمكنها استئجار الخدمة من مزوّدين يمتلكون هذه الوسائط ومسؤولين عن استمرارية تشغيلها وصيانتها مقابل اشتراكات شهرية أو سنوية.

ويُركّز استرداد الموارد من المستهلكين على المراحل النهائية من دورة الاستخدام، أي استعادة المواد المُدمجة والطاقة والموارد من المنتجات في نهاية الاستخدام والتي لم تعد تعمل في تطبيقها الحالي.

وتحصل الشركات العاملة بنموذج الاقتصاد الدائري على فوائد اقتصادية مباشرة في استخراج جميع منتجاتها ذات القيمة القابلة للاسترداد، ويُركّز تصميم منتجاتها على جعل عملية استرداد القيمة سهلة وفعّالة، ويضمن نموذج أعمالها تحفيز المستخدمين على إرجاع المنتجات.

فعلى سبيل المثال، يمكن لشركات الهواتف المحمولة تشجيع العملاء على إعادة أجهزتهم المحمولة والأجهزة اللوحية القديمة مقابل الحصول على خصم على المنتجات الجديدة أو رصيد شراء من المتاجر، فيما تقوم الشركات بتجديد العناصر المرتجعة وإعادة بيعها أو تفكيك المكونات وإعادة تدويرها.

ويتعامل الاقتصاد الدائري مع النفايات باعتبارها عيوبا في تصميم المنتجات، إذ يجب أن تتضمن مواصفات تصميم أي منتَج أن تدخل مكوناته إلى دورة الاقتصاد عند نهاية استخدامها.

ويُمكن تداول العديد من المنتجات من خلال صيانتها ومشاركتها وإعادة استخدامها وإصلاحها وتجديدها وإعادة تصنيعها، وكملاذ أخير إعادة تدويرها، ويُمكن للأغذية وغيرها من المواد البيولوجية التي يمكن إعادتها إلى الطبيعة أن تعمل كأسمدة على تجديد الأرض، ما يُؤدّي إلى زيادة إنتاج أغذية ومواد جديدة.

وتُظهر الدراسات أنه من خلال الاستخدام الفعّال والدائري للمواد في أربع قطاعات صناعية رئيسية فقط، هي الأسمنت والصلب والبلاستيك والألمنيوم، يُمكن أن تساعد استراتيجيات الاقتصاد الدائري في تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية بنسبة 40% بحلول عام 2050، وإذا قُمنا أيضا بإدراج النهج الدائري ضمن النظام الغذائي، فيُمكننا تحقيق تخفيضات تصل إلى 49% في انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية بشكل عام.

كما يُركّز الاقتصاد الدائري على إعادة تجديد موارد الطبيعة بدلا من استخراجها، وذلك من خلال ممارسات زراعية تسمح للطبيعة باستعادة بناء التربة وزيادة التنوع البيولوجي، وإعادة المكونات الحيوية إلى الأرض.

وبإمكان الممارسات الزراعية المتجدّدة أن تُقلّل بشكل كبير من انبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة عن إنتاج الغذاء عن طريق تقليل الاعتماد على المدخلات الاصطناعية وبناء تربة صحية تمتص الكربون بدلا من إطلاقه، وبالإضافة إلى المساعدة في استعادة دورة الكربون الطبيعية، فإن التربة الصحية تكون أكثر قدرة على الاحتفاظ بالمياه، ما يُقلّل من تأثير الجفاف، كما أنها أكثر قدرة على امتصاص المياه، ما يُقلّل من أخطار الفيضانات.

وبالإضافة إلى النظام الغذائي، تبرز أهمية الاقتصاد الدائري في تقليل الحاجة إلى الأراضي اللازمة للحصول على المواد الخام البِكر، وبالتالي يمكن استغلال هذه المساحات لإعادة إحياء الحياة البرية، والحفاظ على التنوع البيولوجي وإصلاح الأنظمة البيئية المتضرّرة.

المصدر: الجزيرة