المدن تلعب دورا حاسما في التكيّف مع تحديات المناخ

Jun 24, 2024

بعد أن شهدت الأرض في يونيو 2023 واحدا من أكثر الأشهر سخونة على الإطلاق، لم تنتظر درجات الحرارة هذا العام الدخول الرسمي لفصل الصيف حتى تُعطينا نظرة سريعة عما ينتظرنا، فخلال الأيام الماضية بدأت موجات الحرّ تجتاح مناطق متعددة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك أوروبا والولايات المتحدة وآسيا.

وفي حين يربط العلماء بين هذا الارتفاع والأنشطة البشرية وظاهرة النينيو، إلا أنه، وبغض النظر عن المسبّبات، ستستمر درجات الحرارة في الارتفاع، لذا علينا التكيّف دائما مع التغيرات المناخية باستخدام الوسائل التكنولوجية المتوافرة في ظلّ التقدم الراهن.

وتُعد المدن عنصرا أساسيا في مكافحة تغير المناخ، إذ تستضيف أكثر من نصف سكان العالم، أي ما مجموعه 4.4 مليار نسمة، ومن المتوقّع أن يتضاعف هذا العدد بحلول عام 2050، بحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وهذا يعني أنه يُتوقّع بحلول ذلك الوقت أن يعيش ما يُقارب 7 من كل 10 أشخاص على مستوى العالم في المدن.

ونظرا لهذه الكثافة السكّانية، ستُسهم المدن بصورة أكبر في انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية، التي تُعد اليوم مسؤولة عن نحو 60% منها، إذ تستهلك المدن موارد كبيرة مثل الطاقة والمياه، وتعمل كمراكز نقل رئيسية، وتنبعث منها كميات كبيرة من الكربون من خلال شبكات الطرق الواسعة وأنظمة النقل العام والمطارات.

وفي حين أن المدن تُسهم بصورة كبيرة في تغير المناخ بسبب نموها السريع وانبعاثاتها العالية، إلا أنها تعمل في الوقت ذاته كمراكز للابتكار والحلول، وتُوفّر فرصا لتنفيذ الممارسات المستدامة والحدّ من انبعاثات الغازات الدفيئة، لذلك فإن للمدن دور حاسم في توقّع التحديات المناخية والتعامل معها.

وبحسب المتخصّصين، يُعاني سكّان المدن والضواحي أكثر بكثير من نظرائهم الذين يعيشون في الريف بسبب ظاهرة تأثير الجزيرة الحرارية الحضرية، ومن هنا أدرك المتخصّصون أنه كلما زاد عدد المناطق المرصوفة في الحي كان تأثير الجزيرة الحرارية الحضرية أقوى (تتمثل ظاهرة الجزر الحضرية في ارتفاع درجات الحرارة داخل المدن الكبيرة عنها في الضواحي والمناطق الريفية والنظم البيئية الطبيعية)، إذ تمتص الأسطح المرصوفة الحرارة أثناء النهار وتُطلقها أثناء الليل ليبدو الفرق أكثر وضوحا في الليل، حيث أن المدن والضواحي أكثر دفئا بما يصل من 10 إلى 12 درجة مقارنة بالمناطق الريفية.

وبحسب رايان نيس، مدير أبحاث التكيّف في معهد المناخ الكندي، فإن “الأسطح الخرسانية والإسفلتية في المناطق الحضرية تعمل مثل الحجارة الساخنة في الساونا، فهي تمتص الأشعة الشمسية وتحوّلها إلى حرارة وتُعيد بثها”.

وجرّبت بعض المدن استخدام الأرصفة العاكسة لأشعة الشمس في الشوارع، وتبنّي طلاء الأسطح باللون الأبيض على نطاق واسع، وهناك بلدان بدأت بالفعل في وضع خطة لمكافحة الحرارة الشديدة، كمدينة آرنم الهولندية التي تُعيد تصوّر طرقها وتُقيّم الطرق غير المستغلة، وذلك لتقليل طرق المرور واستبدال بعض الأسفلت بالمساحات الخضراء.

وإضافة إلى ذلك، تزرع آرنم الأشجار على طول مسارات الدرّاجات والأرصفة لتوفير مزيد من الظلّ، وإنشاء حدائق ومتنزهات مظلّلة جديدة كأماكن باردة للسكّان، إذ تلعب الأشجار والنباتات والمسطحات المائية دورا في تبريد الهواء عن طريق توفير الظلّ والمياه الخارجة من أوراق النباتات وتبخر المياه السطحية.

وذهبت مدن أخرى إلى خيارات كانت تُستخدم في العصور القديمة، فعلى سبيل المثال، في الصين التي تُسجّل فيها درجات الحرارة أرقاما قياسية باستمرار، يستمدّ المهندسون المعماريون الإلهام من “آبار السماء” التي لعبت دورا رئيسيا في الحفاظ على برودة المنازل في العصور التي سبقت تكييف الهواء، وهي عبارة عن فناء مفتوح مظلّل في منتصف مخطط الأرضية، يُصمّم لجذب الهواء البارد بصورة طبيعية، إذ يُوجّه الهواء البارد إلى الأسفل، ما يدفع بالهواء الأكثر دفئا إلى الأعلى خارج الفتحة.

وهناك مثال آخر دُمجت فيه نسخا حديثة من أساليب التبريد القديمة، إذ زُيّنت ناطحة أبراج البحر في أبوظبي بواجهة مستوحاة من عنصر مميز في العمارة العربية التقليدية وهو المشربية، وشُكّلت باستخدام جدار واق يشبه المظلّة، تفتح وتغلق تلقائيا اعتمادا على موقع وشدّة ضوء الشمس، وتضمّ مثلّثات مغطاة بألياف زجاجية مثقبة دقيقة ومبرمجة للاستجابة لحركة الشمس، بحيث تفتح في حال تغير الظروف الجوية، إذ تُساعد الظلال القابلة للتحكم والتعديل على تقليل الحرارة الداخلية الناتجة من ضوء الشمس بنحو 50%، وتُقلّل من الاعتماد على الإضاءة والتبريد الاصطناعي وتُوفّر الطاقة.

كما صُمّمت حدائق مزوّدة بستائر تفتح ليلا وتطلق الحرارة المتراكمة، وحوائط موضوعة بصورة استراتيجية لتوجيه النسيم البارد، مع مناطق جلوس مظلّلة، وأجهزة رذاذ تعمل على رش الماء لتوفير تبريد إضافي.

‎ومن جهة أخرى، يمكن أن يعكس تطبيق الطلاء الأبيض على أسطح المنازل ما يصل إلى 90% من ضوء الشمس، ما يُؤدّي إلى تبريد 30% من المساحات الداخلية تقريبا وتقليل الاعتماد على تكييف الهواء، حيث يعكس اللون الأبيض الحرارة بدلا من امتصاصها.

وفي السياق ذاته، يُوفّر الطلاء الأكثر بياضا، الذي طوّره باحثون من جامعة بوردو، فوائد تبريد إضافية، كما تقوم بعض المدن بتغطية الطرق للمساعدة في خفض درجات الحرارة في الأحياء.

و‎‎إضافة إلى ذلك، بدء عدد متزايد من المدن بتحديد أدوار جديدة للمتخصّصين في الحرارة، إدراكا لتصاعد خطر الحرارة الشديدة والحاجة الملحّة إلى الحلول المرنة. ومنذ عام 2021، أصبح هناك صفة رئيس تنفيذي لشؤون الحرارة، يُشرف على مبادرات مثل زراعة الأشجار وتركيب الأسطح والأرصفة الباردة وتحديث المساكن لتقليل استهلاك الطاقة للتبريد.

بقلم: نيرمين علي – اندبندنت عربية