هل تنتصر روسيا في استثمار الاحتباس الحراري؟

Feb 25, 2024

إنها واحدة من أبرد الأماكن النائية وأكثرها قسوة على هذا الكوكب. كان مناخها القاسي ودرجات الحرارة المعادية لحياة الإنسان منذ فترة طويلة بمثابة عائق طبيعي أمام التنمية والاستغلال، لكن يبدو أن هذا الأمر بدأ يتغير بسرعة.

الآن، هذه البرية النائية الواقعة في القطب الشمالي لم تعد كما كانت منذ عقود، فقد أدَّت التأثيرات الكارثية الناجمة عن الاحتباس الحراري العالمي إلى إذابة القمم الجليدية القطبية، وأصبح الوصول إلى الموارد، التي تبلغ قيمتها عشرات التريليونات من الدولارات، في متناول الروس أكثر من غيرهم.

كنوز القطب الشمالي

كانت السيطرة على موارد القطب الشمالي الغنية وقيمتها الإستراتيجية طموحا للقادة الروس منذ فترة طويلة، وبالفعل، اعترف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بذلك في حديثه خلال منتدى القطب الشمالي في مدينة أرخانجيلسك بشمال روسيا في أبريل 2017، قائلاً “إن ظاهرة الاحتباس الحراري وذوبان الجليد في القطب الشمالي مفيدان لاستخدام المنطقة للأغراض الاقتصادية”.

فعلت روسيا ذلك في وقت تحوّل فيه تغير المناخ في جميع أنحاء العالم إلى أزمة تاريخية، وشكَّل الاحتباس الحراري مخاطر جسيمة. وعلى الصعيد العالمي، يعد ارتفاع درجة حرارة المناخ كارثة تهدد الأرواح وسبل العيش بالفيضانات والتصحر والحرائق والجفاف، ما يهدد بجعل مناطق شاسعة أقل صلاحية للسكن، ويؤدي إلى أكبر هجرة للاجئين في التاريخ، ويتطلب جهودا وإنفاقا هائلا لمكافحتها.

لا تختلف العواقب بالنسبة لروسيا، حيث ترتفع درجة الحرارة بمعدل 2.5 مرة أسرع من بقية العالم، وفي عام 2020 شهدت مناطق في جميع أنحاء روسيا أعلى درجات الحرارة على الإطلاق، ما ساهم في حرائق الغابات في مساحة تعادل مساحة اليونان، ونتج عنها ثلث كمية ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي مقارنة بعام 2019.

كما قد يؤدي هذا إلى إطلاق كارثي محتمل للكربون في الغلاف الجوي، وهو ما لن يمثل مشكلة روسيا وحدها بعد الآن. فوفقا لإحدى الدراسات، فإن الانخفاض بنسبة 30 إلى 99% في التربة الصقيعية التي تغطي ما يقرب من ثلثي الأراضي الروسية، من شأنه أن يضع الكرة الأرضية “على حافة الهاوية” بحلول نهاية القرن.

ومن المتوقع أن تؤدي التحولات الجذرية في أنماط الطقس العالمية -والتي تسارعت بسبب ارتفاع درجة حرارة مياه القطب الشمالي وتقلُّص الغطاء الجليدي- إلى زيادة حالات الجفاف في مناطق “سلة الخبز” الزراعية الغنية بجنوب روسيا، وهذا يمكن أن يشكل مخاطر على الأمن الغذائي العالمي، ويهدد الصادرات الروسية الأساسية مثل القمح.

ويحذر العلماء من أن الحد من ارتفاع متوسط درجات الحرارة العالمية إلى أقل من درجتين مئويتين قد لا يمنع الجليد البحري في القطب الشمالي من الاختفاء في فصول الصيف هذا القرن حتى لو حققت الحكومات هدفا أساسيا للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري حددته في عام 2015.

لكن بالنسبة لعدد قليل من الدول، سيمثل تغير المناخ فرصة لا مثيل لها، حيث تصبح المناطق الأكثر برودة على كوكب الأرض أكثر اعتدالاً، وقد لا تكون أي دولة في وضع أفضل للاستفادة من تغير المناخ من روسيا.

طريق الحرير القطبي الجديد

على الرغم من أن الحكومات في مختلف أنحاء العالم ربما تتسابق لتجنب التأثيرات الكارثية المحتملة لتغير المناخ، فإن اقتصاديات الاحتباس الحراري العالمي تلعب دورها بشكل مختلف في روسيا.

فانحسار جليد القطب الشمالي جعل الشحن التجاري في الممرات الشمالية الغربية والشمالية الشرقية في قبضة الدب الروسي، فلم تعد الناقلات وسفن الشحن القادمة من الشرق وجنوب شرق آسيا بحاجة إلى كاسحات جليد تشق لها طريقها إلى أوروبا عبر طريق الحرير الأبيض.

ولتوضيح مدى أهمية هذه الممرات الجديدة، فكِّر في الطريق التقليدي من روتردام في هولندا إلى شنغهاي في الصين، ففي أوائل القرن التاسع عشر كان على السفينة أن تسافر حول رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا، أي أن المسافة تبلغ نحو 26 ألف كيلومتر، وبمجرد افتتاح قناة السويس في مصر عام 1869 أصبح من الممكن تجنّب الرحلة الطويلة والشاقة حول أفريقيا، وأصبحت الرحلة نفسها أقصر بنسبة 23%.

وعبر القطب الشمالي الروسي، هناك ائتلاف تجاري من الشركات التي تدعمها الحكومة الروسية من خلال خطة لاستثمار 735 مليار روبل (نحو 10 مليارات دولار) على مدى خمس سنوات لتطوير الممر الشمالي الشرقي، وهو ممر ملاحي بين المحيط الهادي والمحيط الأطلسي يسميه الروس “طريق بحر الشمال”، ويخططون لجذب الشحن بين آسيا وأوروبا الذي يعبر الآن قناة السويس، ولتمكين مشاريع التعدين والغاز الطبيعي والسياحة.

كلما انحسر الجليد في القطب الشمالي أصبحت هذه الأفكار التجارية أكثر منطقية، فهذا الممر الملاحي مثلا من شأنه أن يختصر 24% إضافية عبر طريق بحر الشمال خلال رحلة من بوسان في كوريا الجنوبية إلى أمستردام، وهو ما يوفر بشكل كبير في الوقت وتكاليف الوقود، ما يجعله ممرا مائيا ذا أهمية استراتيجية.

مع أم ضد تغير المناخ؟

يخشى الناشطون في مجال البيئة أن الشحن التجاري في القطب الشمالي -وهو أمر ممكن لأن تغير المناخ أدى إلى تقلص الجليد بشكل مطرد في العقود الأخيرة- سيسمح باستغلال المنطقة التي كانت حتى الآن بِكرا، ويفتح المنطقة أمام المزيد من الشحن والتنقيب عن النفط والغاز.

لقد قامت العديد من المجموعات البيئية بحملة ضد هذه المشاريع، حيث تقع أجزاء من حقول النفط داخل محمية طبيعية، ويمكن أن يؤدي البناء إلى الإضرار بالحياة البرية في القطب الشمالي هناك، ويُلحق الضرر بسبل عيش السكان الأصليين والحياة البرية مثل الدببة القطبية التي يمثل الجليد البحري في القطب الشمالي المنصة الحيوية لصيد الفقمات بالنسبة لها.

وتعد روسيا بالفعل رابع أكبر مصدر لانبعاثات الغازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري في العالم، حيث تمثل 4.6% من إجمالي الانبعاثات العالمية، ويعد نصيب الفرد من الانبعاثات فيها من بين أعلى المعدلات في العالم، فهو أعلى بنسبة 53% من الصين، وأعلى بنسبة 79% من الاتحاد الأوروبي.

وعلى الرغم من أن روسيا تتمتع بإمكانات هائلة كمصدر للطاقة المتجددة، فإن حصة مصادر الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة في روسيا لا تُذكر (أقل من 0.1% لطاقة الرياح والطاقة الشمسية والطاقة الحرارية الأرضية)، ولا توجد خطط واضحة للاستثمار بشكل كبير في نموها.

وتبدو سياسة الكرملين في التعامل مع تغير المناخ متناقضة، فهي ليست قضية مهمة في السياسة الداخلية، لكن من منطلق إدراكه الدائم لصورة روسيا العالمية، صدَّق بوتين على اتفاقيات باريس في عام 2019، وتعهد لأول مرة بأن روسيا -المنتج الهائل للوقود الأحفوري- ستصل إلى صافي انبعاثات كربونية صفرية بحلول عام 2060 على الرغم من أنها لم توافق بعد على التخلص التدريجي من انبعاثات الفحم والميثان خلال العقد المقبل.

نظريا، انضمت روسيا إلى المعركة العالمية ضد تغير المناخ، ولكنها عازمة أيضا على تحقيق أقصى استفادة من الفوائد الاقتصادية الناجمة عن ظاهرة الاحتباس الحراري، وخاصة في مناطق مثل بحر سيبيريا الشرقي.

المصدر: الجزيرة