أثر التلوث على القطاع المالي

Jan 03, 2024

لا يشكل التلوث بأشكاله المختلفة تهديدات للبيئة والصحة العامة فحسب، بل يلقي بظلال كبيرة على استقرار القطاع المالي وازدهاره. إن التكاليف التي تتكبدها الصناعة المالية بسبب المخاطر المرتبطة بالتلوث متعددة الأوجه، وتتراوح من زيادة التزامات أقساط التأمين إلى التهديد المتمثل في عدم استقرار القيمة الراسمالية للمشاريع، وتكاليف الصيانة، والتحديث المطلوب، والمنافسة، وما إلى ذلك.

يساهم التلوث، وخاصة في شكل انبعاثات الغازات الدفيئة، في تغير المناخ واضطرابه، وبالتالي في أضرار تصيب الزراعة والصناعة والسياحة وقطاع الخدمات وغيرها. ومع تزايد تواتر الظواهر الجوية المتطرفة وتعمق حدتها، بات القطاع المالي يواجه مخاطر متزايدة. وإذ تتزاحم شركات التأمين في تسديد المطالبات المتزايدة الناجمة عن الكوارث الطبيعية، يشهد المستثمرون الانخفاض المحتمل لقيمة الأصول في المناطق المعرضة للمناخ المتغير والمتطرف.

ويقف قطاع التأمين بشكل خاص على خط المواجهة الأولى في المعركة ضد المخاطر الناجمة عن التلوث، إذ أن تصاعد وتيرة الكوارث المرتبطة بالطقس يجهد شركات التأمين في الوقت الذي تواجه فيه دفعات والتزامات متزايدة، فيما يواجه المستثمرون أقساطا أكثر ارتفاعا. هذه الظاهرة، التي يشار إليها غالبا باسم “مخاطر المناخ”، تدفع شركات التأمين إلى إعادة تقييم استراتيجيات الاكتتاب ونماذج التسعير الخاصة بها للتكيف مع مشاهد المخاطر المتغيرة بسرعة.

وفي ضوء ذلك، بات المستثمرون يدركون بشكل متزايد المخاطر المالية المرتبطة بالتلوث وتغير المناخ. فالشركات العاملة في القطاعات المعرضة للخلافات البيئية، أو تلك التي غدت تواجه حملات تنظيمية محتملة، قد تواجه انخفاضًا في أسعار أسهمها. وقد أدى هذا إلى طفرة في الاستثمار المسؤول اجتماعيا، حيث ما انفكت تؤدي المعايير البيئية والاجتماعية والاخلاقية والحوكمة الخضراء دورا محوريا في قرارات الاستثمار.

ومع تحول العالم نحو طاقة أنظف، كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرها من طاقات نظيفة وممارسات مستدامة، قد تجد الشركات التي تستثمر بكثافة في الصناعات الملوثة نفسها عالقة في الأصول الثابتة. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تصبح احتياطيات الوقود الأحفوري غير مجدية اقتصاديا مع تسارع التحول العالمي نحو الطاقة المتجددة. وتواجه المؤسسات المالية التي تستثمر بشكل كبير في مثل هذه الصناعات احتمال انخفاض قيمة أصولها وانفتاحها على الخسائر المحتملة، ولذلك بدأت حتى الشركات النفطية الكبيرة بالاستثمار في الطاقة النظيفة.

وتقوم الحكومات في جميع أنحاء العالم بسن قوانين بيئية صارمة لمكافحة التلوث، إما استجابة لالتزاماتها على صعيد الاتفاقيات العالمية للمناخ أو تماشيا مع حاجاتها الوطنية. وفي حين أن هذه التدابير ضرورية لتحقيق الصالح العام، فإنها يمكن أن تشكل مخاطر على بعض المؤسسات المالية الوطنية التقليدية. فقد تواجه البنوك والصناديق الاستثمارية التي تمول الصناعات ذات البصمة البيئية العالية تحديات قانونية وأخرى متعلقة بالسمعة، ما يؤثر على أرباحها النهائية.

وإدراكا للمخاطر التي يفرضها التلوث، يركز القطاع المالي بشكل متزايد على التمويل المستدام والأخضر. إذ إن الاستثمارات في الطاقة المتجددة، والتكنولوجيات النظيفة، والمشاريع المسؤولة بيئيا، توفر سبلا جديدة للنمو الاقتصادي. إذ تكتسب السندات الخضراء وصناديق الاستثمار المستدامة شعبية كبيرة، حيث يسعى المستثمرون إلى مواءمة محافظهم الاستثمارية مع المبادرات الواعية بيئيًا التي تستجيب لسمفونية المحافظة على البيئة المحلية والعالمية.

ختاما، لا يمكن إنكار تورط القطاع المالي بالمخاطر المرتبطة بالتلوث، ولكن بينما يتصارع العالم مع عواقب التدهور البيئي، يجب على الصناعة المالية أن تتكيف بشكل استباقي مع المشهد المتطور باستمرار في ضوء محاولات وقف ارتفاع معدل درجة الحرارة عند درجة ونصف سيلسيوس في عام 2050. فمن إعادة تعريف نماذج المخاطر إلى تبني التمويل المستدام، تبحر المؤسسات المالية في مياه مجهولة، ليس فقط لحماية مصالحها بل للمساهمة في اقتصاد عالمي أنظف وأكثر مرونة وتكيفا. ومع استمرار تعمق التلوث شرع القطاع المالي في إعادة تعريف حساب المخاطر، إننا نأمل أن قدرة القطاع المالي على الإبداع والاستثمار على نحو مستدام، بدعم صريح وشجاع وسخي من القطاع العام، سوف تؤدي دوراً حاسماً في تشكيل مستقبل مرن وواع بيئياً.

بقلم: أيوب أبودية – صحيفة الرأي الأردنية