مؤتمر المناخ واتفاق الحد الأدنى

Dec 19, 2023

اضطرت رئاسة مؤتمر المناخ (كوب28)، إلى تمديد استثنائي لفترة المؤتمر؛ لتقريب وجهات نظر المفاوضين من نحو 195 دولة في قمة الأمم المتحدة للمناخ في دبي؛ للوصول إلى اتفاق شامل يحقق الحد الأدنى من توافق الدول الأطراف في اتفاقية التغير المناخي، ولا شك أن أبرز الأسباب هو تنوع الخلافات حول سبل تحقيق أهداف اتفاقية التغير المناخي.

ويعتبر تعدد الآراء وحدة المناقشات من الأمور التي تعود عليها آلاف المشاركين في عشرات المؤتمرات الخاصة بالمناخ، بمن فيهم رؤساء الدول والحكومات والوزراء، وممثلو المجتمع المدني، ومؤسسات القطاع الخاص، والشركات العالمية الضخمة النافذة. ولهذا لم تغفل الاتفاقية الفجوة التي تفرضها -أيضا- تعارض المصالح مع نتائج الالتزام بتحقيق الهدف الأساس للاتفاقية، المتمثل في “تثبيت تركيزات غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي عند مستوى لا يشكل خطورة على مناخ الأرض، خلال فترة زمنية كافية، تسمح للنظم البيئية أن تتأقلم بصورة طبيعية مع تغير المناخ”.

ويبرز تباين المصالح اختلاف أشكال مجموعات الدول الأطراف، وتباينها في القوة والإمكانيات، وبالتالي تباين وجهات النظر والخلافات حول الإجراءات التطبيقية التي يمكن الاتفاق عليها. فالدول النامية ترى أن الأولوية تكون لتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية في بلدانها، بدون أن يؤدي تطبيق الإجراءات المقترحة من الدول الصناعية أي تقييد لأنشطتها الاقتصادية، أو إضافة أعباء جديدة إلى صناعاتها الناشئة، وزراعتها المجهدة. كما تصر هذه الدول على أن الدول الصناعية هي المتسبب الرئيس في المشكلة؛ نتيجة انبعاثات الغازات خلال مراحل نموها، بجانب أنها -الآن- تملك الوسائل المادية والفنية للحد منها، ومساعدة الدول الفقيرة للتكيف مع الآثار السلبية، وتقديم مساعدات تقنية للدول النامية النفطية؛ لتمكنها من تنويع اقتصادها.

وإدراكا لتفاوت الإمكانيات والالتزامات، رسخت الاتفاقية مجموعة من المبادئ المتفق عليها في إعلان ريو لتحكم العلاقات البيئية الدولية، ومن أبرزها مبدأ “الحيطة” حتى لا يتم التحجج بنقص اليقين العلمي كذريعة من أجل تأجيل تنفيذ إجراءات فورية؛ ضمانا وتأمينا للمستقبل من مخاطر التغير المناخي، ومبدأ “المسؤولية المشتركة لكن المتباينة”، باعتبار التفاوت بين الدول وفقا لإمكاناتها بحيث تتعاظم مسؤولية الدول الصناعية لامتلاكها القدرات التمويلية، والتكنولوجيات الملائمة، والمؤسسات القادرة، والكوادر المؤهلة واللازمة للتصدي لمشكلة تغير المناخ، ومبدأ “الشمولية” باعتبار تعدد القطاعات الاقتصادية، ومصادر الانبعاثات، وكذلك تعدد الغازات المسببة للاحتباس الحراري، فيجب التركيز على جميع الغازات، وجميع القطاعات -دون استثناء- وكذلك شمولية إجراءات الحد من آثار التغير المناخي، والتأقلم معها؛ لضمان توازن المنافع والتكاليف بصورة تعكس التداخل بين البلدان، والتي تتباين في خصائصها وظروفها الوطنية، ومبدأ “التباين والإنصاف” لمراعاة العدالة في توزيع الأعباء الناجمة عن التغير المناخي. فكما أن الدول تتباين في مساهمتها التاريخية في انبعاث الغازات التي تسبب التغير المناخي، فإن الدول تتباين في تأثرها بالتغير المناخي بدرجة مختلفة، كما تتباين في تأثرها بالإجراءات المتخذة لمواجهة التغير المناخي، ومبدأ “المسؤولية عن الإجراءات المتخذة” لتعكس الآثار على الدول الأطراف، ولاسيما الدول النامية ليتم تعويض الدول التي قد تتضرر من السياسات التي تتبعها الدول الصناعية خلال تنفيذ التزاماتها.

ومع تزايد النقاشات بين الدول الأطراف، اتضحت صعوبة الالتزام الحقيقي بهذه المبادئ، دون تضحيات بمصالحها، والحفاظ على توازن المراكز الاقتصادية للدول.

وسعت دولة الإمارات إلى مد جسور التواصل والتعاون مع المجتمع الدولي، من خلال استضافة قمة (كوب28) في المنطقة التي تعتمد في اقتصادها على الوقود الأحفوري، ووجدتها فرصة لإظهار جهودها المستمرة لتنويع القاعدة الاقتصادية، وتحفيز التعاون مع جميع الأطراف؛ لتزيد من معدلات استثماراتها في مجال نقل تقنيات الطاقة المتجددة. ورغم ذلك فقد برزت العديد من الانتقادات التي وجهت إلى اختيار مكان عقد المؤتمر في إحدى كبرى مناطق إنتاج النفط. فقد اعتبرت بعض الفئات اليسارية المتطرفة أنه تم “اختطاف” (كوب28) من قبل صناعة النفط العالمية، واتهم زعماء تحالف الدول الجزرية الصغيرة (42 دولة معرضة لارتفاع مستوى سطح البحر) الدول المنتجة للوقود الأحفوري بالطمع أو الأنانية، في كون أن ترفهم يأتي على حساب وجود هذه الدول على كوكب الأرض. واتهمت بعض وسائل الإعلام الغربية الإمارات باستخدامها دورها كمضيف لمحادثات الأمم المتحدة للمناخ كفرصة لإبرام صفقات النفط والغاز (بي بي سي)، كما وجهت اتهامات لرئيس المؤتمر بانتهاك معايير مبدأ “الالتزام بالحياد” لرؤساء مؤتمر الأطراف وفرقهم؛ بسبب محاولات عقد صفقات تجارية أثناء عملية مؤتمر الأطراف؛ ما يستدعي أن تعمل الأمم المتحدة على إيجاد التوازن.

وأدرك المفاوضون -من واقع خبراتهم خلال الاجتماعات على مدى ثلاثين عاما- وجود العديد من المؤشرات التي تؤكد أن العالم ما يزال بعيدا عن المسار الصحيح لتحقيق نتائج طموحة ضمن إطار خريطة طريق لبناء مستقبل مستدام ومرن للعالم، عبر إجراءات تصحيح جذرية لمسار العمل المناخي العالمي، وتحويل التعهدات والوعود إلى تقدم ملموس في التصدي لأزمة المناخ، وتحقيق هدف تفادي تجاوز الارتفاع في درجة حرارة الأرض مستوى 1.5 درجة مئوية. وقد زاد الشعور بالانحراف عن سبل تحقيق هذا الهدف محاولات المفاوضين من بعض المجموعات المختلفة للدول الأطراف في تغيير محاور التفاوض إلى محاولات التخلص من الوقود الأحفوري بدلا عن التركيز على جميع غازات الانبعاثات في الهدف الأساس للاتفاقية، وجميع القطاعات المسببة لها، بالإضافة إلى تحفيز مشاركة الدول النفطية في تمويل وعودهم السابقة. فخلال المؤتمرات السابقة وعدت الدول المتقدمة المسؤولة عن معظم انبعاثات الاحتباس الحراري (سواء الآن أو في الماضي) أن تقدم للنامية موارد مالية إضافية؛ لمواجهة تكاليف الالتزام بتنفيذ الاتفاقية، حيث قدرت الأمم المتحدة حاجة الدول النامية إلى ما يزيد على 300 مليار دولار سنويا، بحلول عام 2030؛ للتكيف مع تغير المناخ. وقد تم طرح فكرة إنشاء صندوق لهذا الغرض منذ عدة سنوات، إلا أن الدول الصناعية لم توف بالتزاماتها السابقة لتوفير 100 بليون دولار سنويا لتمويل جهود الحد من آثار التغيرات المناخية، والتكيف معها في الدول النامية، واستمرت في المماطلة نحو توفير التمويل اللازم خوفا من الاضطرار إلى دفع “تعويضات” عن الانبعاثات الكربونية.

وأدركت الإمارات -باعتبارها الدولة المضيفة- أهمية التمويل لنجاح (كوب28) ليكون انطلاقا نحو التنفيذ الفعلي للوعود، بدلا عن استمرار التأكيد عليها، ولهذا طرح رئيس (كوب28) الإماراتي سلطان الجابر، في بداية المؤتمر قرار تنفيذ إنشاء صندوق “الخسائر والأضرار” المناخية؛ للتعويض على الدول الأكثر تضررا جراء العواصف والفيضانات، وموجات الجفاف وغيرها، الناجمة عن التغير المناخي، وبالتالي أعلن الاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة (بعد الموافقة على تعديل النص الذي اقترحته) وآخرون عن مساهمات يبلغ مجموعها حوالى 400 مليون دولار للدول الفقيرة، التي تعاني من آثار تغير المناخ.

ورغم هذا الإنجاز المبكر، لم تكف الفترة المقررة رسميا للمؤتمر لتجاوز الخلافات، ومحاولات التملص من الالتزام الحقيقي بمبادئ الاتفاقية، فتم الاتفاق على تمديد المؤتمر للخروج بصيغة توافقية، ولو بالحد الأدنى.

وبالتالي لم توفر الصيغة النهائية للمؤتمر إشارة قوية أن الدول الصناعية أصبحت أكثر التزاما نحو بذل مزيد من الجهود لتحمل مسؤولياتها “المشتركة والمتباينة”؛ لإحرازه التقدم المنشود للحد من الانبعاثات المسببة للتغير المناخي، والانتقال لصالح الاستثمار في مصادر الطاقة النظيفة والآمنة والسليمة، واتخاذ خطوات عملية وملموسة لدعم جهود الدول النامية للتأقلم مع آثاره السلبية. ولم يدرج في نص الوثيقة عبارة “التخلص التام”، أو “التخلص التدريجي” من الوقود الأحفوري كما اقترحت الدول الصناعية نتيجة معارضة كبار منتجي النفط بقيادة المملكة العربية السعودية، لكنه تضمن حلا وسطا بالإشارة إلى التحول بعيدا عن جميع أنواع الوقود الأحفوري، لتمكين العالم من الوصول إلى صافي الصفر بحلول عام 2050. وكذلك أقرت الوثيقة الحاجة إلى تخفيضات عميقة وسريعة ومستدامة لانبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، بما يتماشى مع هدف 1.5 درجة مئوية، ورفع كفاءة وقدرة الطاقة المتجددة عالميا إلى ثلاثة أمثالها، ومضاعفة المعدل السنوي العالمي لتحسين كفاءة استخدام الطاقة بحلول 2030، بجانب الإسراع بالخفض التدريجي للفحم، وإنشاء أنظمة طاقة خالية من الانبعاثات قبل منتصف القرن، وتسريع وتيرة استخدام تقنيات وقف وخفض الانبعاثات، بما في ذلك تكنولوجيات الطاقة المتجددة، والطاقة النووية، وتكنولوجيات التخفيض، والإزالة. بالإضافة غلى خفض الانبعاثات الأخرى غير ثاني أكسيد الكربون، بما في ذلك الميثان. وكذلك تسريع وتيرة خفض الانبعاثات الناجمة عن النقل البري وتطوير البنية التحتية، والنشر السريع للمركبات خالية الانبعاثات، والإلغاء التدريجي للدعم غير الفعال للوقود الأحفوري، والذي لا يعالج مشكلة الفقر أو العدالة.

ولهذا تضمنت الوثيقة النهائية العديد من الفرص الاستثمارية أمام القطاع الخاص في مجالات الطاقة المتجددة، ورفع كفاءة الطاقة وتقنيات تدوير الكربون، وتقنيات الزراعة المستدامة، بجانب زيادة وسائل النقل المعتمدة على طاقة الكهرباء والهيدروجين، وقد يتم إنشاء المزيد من الشركات الجديدة في مجالات الاتجار في حصص انبعاثات الكربون، سواء الشركات الاستشارية، أو شركات السمسرة، أو صناديق الاستثمار في الكربون، بجانب فتح أسواق جديدة في الدول النامية فيما يتعلق بالتقنيات النظيفة، والخدمات البيئية الخاصة بالتكيف مع المخاطر البيئية الناجمة عن تغيرات المناخ في قطاعات الزراعة، والموارد المائية، والساحلية، وغيرها.

بقلم: سيد الخولي – صحيفة المدينة