الخيار الأفضل للجميع هو مستقبل بلا وقود أحفوري

Dec 09, 2023

في الغرب وبالرغم من وضوح الدليل العلمي لمخاطر التغير المناخي وتدهور التنوع الطبيعي، وبالرغم من نشاط التيارات الشبابية الداعية للاستجابة بجدية لتلك المخاطر التي تهدد بعواقب لا قبل لنا جميعا بها، فإن المواطنين العاديين، كما يكتب مارتن هاير، الأستاذ بجامعة أوترشت الهولندية، لديهم صعوبة في الاستسلام لفكرة التخلي عن الحريات التى يتيحها لهم الوقود الأحفوري، وخاصة التنقل بالسيارة والسفر بالطائرة، والتى يرونها استحقاقا طبيعيا حصلوا عليه بعملهم وكدهم. كما تؤثر تلك التصورات في اختيارات هؤلاء المواطنين في الانتخابات، كما ظهر أخيرا -مثلا- في الانتخابات في هولندا، والتي جرت منذ عدة أيام. ويرى هاير أن الأكاديميين والعلماء لم يستطيعوا توفير منظور للمستقبل أو خيالات يمكنها أن تخلق قناعات ورؤى مختلفة لدى هؤلاء المواطنين.

لكننا لا نعيش في هولندا، فكيف هو حالنا، وهل ننظر بجدية لما يحمله المستقبل لنا خاصة في ظل تلك التحديات الكبرى التى تواجهنا؟، كتبت منذ فترة في إطار رؤية لتطوير إحدى قرى الريف المصري، قد تصلح أيضا مع مراعاة الظروف المكانية لعدد آخر من القرى، أننا يمكن أن نرى تلك التحديات كفرص مهمة للتحول المتجدد والتي تعد ليس فقط بمواجهة جادة مبنية على أسس علمية وتحترم الأبعاد الاجتماعية للمكان، ولكنها يمكن أن تنقل تلك القرية لكي تصبح مكانا للحياة الطيبة، حيث تضمن لسكانها أن يحققوا أحلامهم بتلك الحياة ويطمئنوا فيها على أولادهم من بعدهم. كما كتبت عن المستقبل المحتمل لسكان قرية برج رشيد في أقصى شمال الدلتا. وكتبت عن مستقبل سكان مدينة القصير وكيف يمكن لهم أن يعيدوا بناء علاقتهم بالبحر وكائناته بصورة تحفظ للبحر صحته واستمراره، وتضمن لهم حياة تمكنهم من المضي قدما والعيش بصورة أفضل.

لكننا في مصر وفي الغرب، بل وفي العالم قريبه وبعيده، نواجه تحديا أكبر في تلك الرؤى والتصورات وما يمكن تسميته خارطة الطريق لهذا المستقبل، وهو سيطرة الوقود الأحفوري على جوانب متعددة من حياتنا بالصورة التي استخلص منها العلماء أن هذا الاستخدام للوقود هو التهديد الأكبر لأي تصور مستقبلي لحياة مستدامة، وأنه لا بديل لنا سوى أن نتخلص من استخداماته المتعددة وفي أقرب فرصة ممكنة، وبالتالى؛ وضع العلماء لذلك معالم زمنية واضحة إذا أردنا الحفاظ على مستقبل يمكن للبشرية فيه أن تعيش بسلام وبصورة مقبولة مع البيئة الطبيعية لكوكب الأرض.

تجادل الشركات النفطية، وهي المسئولة الأولى عن استخراج النفط في بلادنا وما حولنا والبلاد الأخرى أيضا، أن البدائل المتاحة لا تكفي لتلبية احتياجاتنا من الطاقة، وعليه؛ يجب علينا الاستمرار باستخدام الوقود الأحفوري حتى يمكن إيجاد البدائل. لكن وكما أثبتت العديد من الدراسات فإن البدائل موجودة ومتاحة بالفعل حتى وإن وُجدت إشكاليات فيجب العمل على حلها، مثل استقرار الشبكات الكهربية المعتمدة على الطاقة المتجددة. كما تجادل تلك الشركات التي تدفع معها الدولة المنتجة لتبنى مبادرات لا تسهم بصورة حقيقية في تخفيض الانبعاثات الناجمة عن استخدام الوقود الأحفوري، لكن تستخدمها لتحسين صورتها أمام العالم والادعاء باهتمامها بحالة الطبيعة، مثل المبادرات الهادفة لزراعة ملايين الأشجار مقابل الانبعاثات المتولدة من الوقود الذي يحترق في أجوائنا ويأخذنا بسرعة كبيرة إلى حالة أكثر صعوبة وتحديا كل يوم. وينتقد العلماء مثل تلك المبادرات لأن أنواع الأشجار التي يجب زراعتها يجب أن تتحدد فى ظل ظروف البيئة المحلية ودراستها مع باقي مكونات المنظومة البيئية لتكون فعالة، بالإضافة إلى أن الأشجار تحتاج لوقت طويل لكي تكون فعالة في امتصاص ثانى أكسيد الكربون.

تحاول أيضا تلك الشركات والدول دعم توليد الطاقة من مصادر متجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وبالرغم من أن هذا مطلوب؛ إلا أننا بالفعل وصلنا فى العقدين الأخيرين للاعتماد المتسارع على الطاقات المتجددة والتي أصبحت تمثل نمطا من الصعب إيقافه، نظرا لملاءمته الاقتصادية وللفوائد المتعددة التي باتت واضحة من استخدامها. لكن وطبقا لتقرير منظمة الطاقة العالمية، فبالرغم من أن توليد الطاقة المتجددة ينسجم مع الأهداف التى حددها العلماء للسيطرة على الانبعاثات، إلا أن الجانب الآخر وهو تقليل استخدام الوقود الأحفوري لا يسير بصورة تقترب مما هو مستهدف، بل شهدت الفترة بعد انتهاء جائحة كورونا ازديادا في استهلاكه مقارنة بالفترة قبل الجائحة.

وطبقا لتقرير شارك في إعداده عدد من مؤسسات البحث المستقلة، وبتعاون مع الأمم المتحدة، صدر منذ أسابيع قليلة عن فجوة الإنتاج، تحت عنوان رئيسي “التخلص من أم الزيادة؟”، يتناول خطة أكبر منتجي النفط لزيادة الإنتاج -بالرغم من الوعود المناخية- بأكثر من 110% مما يتسق مع إبقاء زيادة درجات الحرارة عند 1.5 درجة مئوية أو أكثر بنحو 69% من الإبقاء على درجة الحرارة عند درجتين.

تطالب العديد من المؤسسات العلمية بالبدء بتقليص إنتاج النفط فورا وبصورة كبيرة، وأن جميع الدول مطالبة بالتخلص السريع من إنتاج النفط إذا أردنا الحفاظ على فرصة عدم زيادة درجة الحرارة عن 1.5 درجة مئوية أو حتى الإبقاء عليها دون الدرجتين. وقد تبنت اللجنة الدولية الحكومية للتغير المناخي تلك التوصية وأوضحت بجلاء أن النافذة المفتوحة لنا للنجاة من العواقب الكارثية للتغير المناخي آخذة فى الإغلاق بسرعة كبيرة.

في الدول المنتجة للنفط والدول الغربية المتقدمة، حيث الثورة الصناعية وعقود من الإنتاج والحياة التى تتسم بالاستهلاك الكبير، لا شك أنه من الصعب بالفعل تخلي الناس عن نمط حياتهم والتحول لنمط آخر، خاصة أن لديهم من الموارد التى تمكنهم من الاستمرار في الحياة بنمط مشابه لما اعتادوا عليه. كما تصور بعضهم أن بإمكانهم أن يحموا أنفسهم سواء من خلال استخدام تقنيات متقدمة أو حتى من خلال بناء ما يسمى بالملاجئ المناخية!

أما نحن في دول الجنوب النامية، والتي بعضها مثلنا ينتج النفط والغاز، والبعض الآخر هي بضاعته الأساسية ودخله الرئيس، فهل يعني لنا التخلي عن الوقود الأحفوري شيئا أم أننا يجب أن نستمر في إنتاجه واستهلاكه حتى نحظى ببعض التنمية التى تنقصنا ونلحق بتلك الدول التى تخطتنا في مجالات عديدة؟. ولعل أسئلة رئيسية يجب أن نسألها لأنفسنا لتقرير أي مستقبل يجب أن نسعى إليه، فهل هو المستقبل المعتمد بصورة كبيرة على الوقود الأحفوري، والذي إن غاب عنا لنقص في الإمداد أو لقلة في الأموال تتوقف بعض أنشطتنا الحياتية، كما يحدث الآن مع انقطاع الكهرباء اليومي؟ هل يمثل الاستغناء بصورة تدريجية عن الوقود الأحفوري، ليس فقط مواجهة؛ بل أيضا مساهمة مهمة منا لمواجهة التغير المناخي وبناء قدرة ذاتية تمكننا من العمل الجاد للتطور والازدهار في مجالات متعددة؟

نواجه ولا شك في دول الجنوب ضعف المعرفة الجادة بالقضية، وكذلك غياب أو قلة السياسيين الذين يؤمنون فعلا بهذه القضية ولديهم القدرة على صياغة السياسات المحلية وترويجها بين الناس. وفي هذا السياق يصبح التعليم وتحسينه وتطويره وسيلة رئيسية للتعامل مع التغير المناخي، وأيضا لتحسين حياة المواطن، وسينتج عن ذلك إدراك أهمية ومحورية البحث العلمي، ومعرفة ودراسة مواردنا المحلية بصورة أعمق، وهو ما سينتج المعارف المحلية الضرورية لبناء المرونة المطلوبة لمجتمعاتنا، والتي من خلالها تستطيع التصدي للظواهر المتوقعة والتكيف معها وإعداد ما يلزم للتحول الاقتصادي المطلوب.

ليست المواجهة الجادة للتغير المناخي، خاصة من خلال التخلي عن الوقود الأحفوري، فى صالحنا فقط؛ بل في صالح الدول المنتجة للنفط في المنطقة، والتي يمكنها استخدام عائداته المتراكمة في بناء شراكات حقيقية مع الدول الأخرى تُسهم في بناء قدرات هذه الدول، فنستفيد جميعا من حصيلة تلك الدراسات والمشروعات الجادة التي ستبنى عليها، ما يمهد الطريق نحو مستقبل أفضل لنا ولجيراننا ولدول الجنوب؛ بل وفي العالم أجمع.

بقلم: نبيل الهادي – الشروق