العلاقة بين المسؤولية المناخية والحفاظ على ثروة الأسرة

Dec 08, 2023

ثمة مثلٌ شائعٌ مفاده: الثروة يصنعها الجيل الأول، وينفقها الجيل الثاني، ويضيّعها الجيل الثالث. وعلى الرغم من أن مسار انتقال الثروة بين الأجيال المتعاقبة في الأُسرة الواحدة يتبع هذا النمط المتوقَّع في أغلب الأحيان، يكمن سرُّ تغيير هذه الصورة النمطية في تحقيق التوازن الدقيق بين الإرث والتفكير المستقبلي.

وفي مجال إدارة الثروات، قد يكون التفاعل بين الأجيال مصدراً للتوتر وينبوعاً للابتكار في الوقت ذاته. تتجلى هذه الدينامية بأعلى درجات الوضوح في الشرق الأوسط، حيث أدت العولمة والتعليم الدولي إلى ظهور جيل جديد من الورثة الذين يمتلكون رؤى وأفكاراً مختلفة لإدارة الثروة إدارة رشيدة.

الاختلافات في الرؤى والأفكار بين الأجيال المتعاقبة قديمة، وهذا ينطبق على سياق إدارة ثروات الأسرة، لكن الاحتكاك الثقافي لأفراد الأسر أصبح حافزاً للتغيير في القرن الحادي والعشرين؛ إذ يتلقى الكثير من أفراد الأُسر الذين ينتمون إلى الجيل التالي تعليمهم في الخارج، فيعودون إلى ديارهم محمّلين بأفكار قد تبدو صعبة القبول على أذهان الأجيال الأكبر سناً. تتمحور هذه الأفكار غالباً حول غاية محدَّدة تتمثل في المسؤولية المناخية.

وظهور ورثة يمتلكون الوعي بقضية التغير المناخي لا يشكل عائقاً، بل فرصة. والآباء والأمهات الذين يتقبّلون التحديات التي يجلبها أبناؤهم إلى الطاولة ويتيحون أمامهم فرصة طرح أفكارهم لحلها، يجدون ورثتهم منخرطين بدرجة أعمق في الأنشطة الاستثمارية والتجارية للأسرة، وهذا تحوّل دقيق يبشّر بتحقيق التواؤم بين الحفاظ على ثروة الأسرة وإنجاز غاية أكبر.

أصبحت المسؤولية المناخية في نظر الكثيرين ممّن ينتمون إلى أجيال المستقبل معياراً أساسياً لإدارة الثروة. ويمثل إلحاح القضايا البيئية مسألة حساسة لدى الشباب، وهم لا ينظرون إليها باعتبارها التزاماً أخلاقياً فحسب، بل باعتبارها استراتيجية لضمان استمرارية ثروة أسرهم. وهذا المنظور خير شاهد على قوة الغاية وأهميتها.

ما يميز الأُسر الثرية عن المؤسسات الاستثمارية هو قدرتها الاستثنائية على ترسيخ الشعور بأنها تنشد تحقيق غاية محدَّدة من مساعيها المالية؛ إذ تستطيع الأُسر في أغلب الأحيان وضع قيمها وأهدافها النهائية وتكييفها بسهولة لتشمل رسائل أوسع نطاقاً وذات طابع شخصي أكثر. تتيح لها هذه المرونة إمكانية استثنائية للتركيز على القضايا التي تهم أفرادها وتهم ورثتهم.

وهذا يسلط الضوء على الميزة التي توفرها القيم الأسرية وإدارة الثروات المبنية على غاية محدّدة؛ إذ تمتلك الأُسر القدرة على التحرك بسرعة استجابةً للتحديات العالمية المُلحة، وهذه المرونة هي سلاحها السري. ويمكنها دمج استراتيجيات الاستثمار المستدامة، والشروع في تنفيذ مبادرات خيرية مع التركيز الشديد على العمل المناخي، وتبنّي ممارسات الأعمال الأخلاقية التي تعكس قيمها الأساسية.

وحينما نراقب الديناميات التي تشهد تغيرات متلاحقة في الشرق الأوسط، سيتضح لنا أن القول المأثور الذي يتحدث عن تآكل الثروة لا ينطبق على الوضع القائم في المنطقة؛ فالأسر التي تتبنى غاية محدَّدة تجد ثروتها تتنامى وتتحوّل إلى قوة جبارة تسهم في تعزيز العمل الخيري، وتصبح إرثاً لا يقتصر على رأس المال المالي فحسب، بل يتعلق أيضاً برأس المال الاجتماعي والبيئي.

وعلى الرغم من الحقيقة التاريخية التي تقول إن الكثير من الأُسر في منطقة الشرق الأوسط استمدت ثروتها من الوقود الأحفوري، أو بسببه، فإن المنطقة ستؤدي دوراً محورياً في الجهود العالمية لمكافحة التغير المناخي.

وخلال الفترة التي سبقت انعقاد قمة المناخ (كوب28)، وجدنا أن أسماء القادة السياسيين وقادة الشركات في المنطقة هي التي تتصدّر العناوين الرئيسية؛ لكن سكانها من الأُسر التي تمتلك ثروات كبيرة يجب أن يشاركوا أيضاً في المباحثات ويكونوا جزءاً من الحل. وبالحديث عن منطقة تتعامل بحساسية شديدة مع التحول نحو اقتصاد يُنتِج الكربون بكثافة أقل؛ سيؤدي توفير مصادر بديلة للثروة وفرص استثمارية جذابة دوراً حاسماً في جذب اهتمام الأجيال الشابة.

وباعتبارهم الجيل الأول الذي نشأ في ظل القدرة اللامحدودة على الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي، اطلع ورثة ثروة الأجيال السابقة على التجارب الشخصية للآخرين على مستوى العالم. ولا يقتصر الأمر على رغبة المنتمين إلى الجيل الجديد في استخدام ثرواتهم الخاصة لمعالجة القضايا الاجتماعية والبيئية فحسب، بل إن منظورهم العالمي شكّل انطباعهم عن الاستثمار والميراث.

وسواء كان هذا الجيل التالي من المستثمرين يأمل معالجة هذه التحديات من خلال الاستثمار المباشر أو المساعي الخيرية أو عن طريق مدراء الثروات، فإن الفكرة المحورية هي وجود غاية محدَّدة ترتكز عليها الرغبة الأساسية في تحقيق أقصى قدر من العائدات. وهذا مدعوم بالبيانات؛ فوفقاً لاستقصاء أجرته شركة برايس ووتر هاوس كوبرز (PwC) عام 2022 بعنوان “استقصاء جيل المستقبل على مستوى العالم (Global NextGen Survey)” يتوقع 72% من المنتمين إلى أجيال المستقبل أن يشاركوا شخصياً في زيادة التركيز على الاستثمارات الهادفة لتعزيز أثر الاستدامة في المستقبل.

تتوقف استمرارية ثروة الأسرة وقيمها لأجيال المستقبل على فهم هذا التغيُّر الذي حدث منذ بداية القرن الحادي والعشرين. وحينما نشهد التكامل بين استراتيجيات الاستثمار المستدام، والمبادرات الخيرية والممارسات الأخلاقية في مجال الأعمال، نرى أن هذه ليست مجرد قائمة مهام ننجز بنودها واحداً تلو الآخر فحسب، بل ركيزة أساسية للإرث الذي سيستمر على مدار الأجيال المتعاقبة.

علاوة على ذلك، فهذه الجهود تلقى استحسان الورثة استحساناً كبيراً. وتضمن إدارة الثروات القائمة على تحقيق غاية محدَّدة عدم نسيان قيم الأسرة وتطلعاتها أو إغفالها في أثناء التحولات التي تشهدها الأجيال المتعاقبة؛ إذ توفر الإحساس بالهوية والمسؤولية التي تتجاوز فكرة الثروة النقدية.

على الرغم من أن هذا القول المأثور يظل بمثابة جرس إنذار، فإن الأسر التي تتحدى الصورة النمطية تدرك قوة الغاية المحدَّدة. لا يقتصر الأمر على تأمين الإرث المالي فحسب؛ بل يتعلق بإحداث أثر دائم يتردد صداه عبر الأجيال المتعاقبة.

بقلم: سيباستيان غوريس – فورتشن العربية