البيئة… ضحية الحروب التي لا تتذكرها الإحصاءات

Nov 12, 2023

في الـ26 من أكتوبر الماضي دق مجلس وزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة ناقوس الخطر من احتمالية أن تؤدي الحرب في غزة إلى دمار المنظومة البيئية داخل القطاع المحاصر. وأشار المجلس في بيان على هامش الاجتماع الـ34 بالعاصمة العمانية مسقط إلى أن الهجمات الإسرائيلية أدت إلى تدمير جميع الأنشطة والمشاريع البيئية والزراعية، وكذلك تدهور الأراضي وتراجع التنوع البيولوجي وخفض في الغطاء النباتي بالبيئات البرية والبحرية.

وطالب المجلس بإعادة تأهيل المناطق التي تضررت ومعالجة الأضرار البيئية والصحية والإنسانية، وضمان بناء وصيانة وتشغيل المرافق البيئية والبنية التحتية لتفادي الآثار السلبية المحتملة جراء ما يجري في قطاع غزة.

وقبل أيام، كان رئيس فريق عمل مشروع دعم البيئة والمياه في جنوب المتوسط التابع للاتحاد الأوروبي، ميشال سكولوس، قد أعرب عن قلقه من تأثيرات حرب غزة في المياه، كما رجح في تصريحات نقلتها وكالة أنباء الشرق الأوسط أن تؤدي الحرب إلى تلوث بيئي خطر، معضداً وجهة نظره بالقول إن استخدام إسرائيل أسلحة محرمة دولياً يمكن أن يلحق أضراراً بالغة بالمياه الجوفية في القطاع المحاصر، التي تمتد إلى خزانات المياه.

وبينما تستعر الحروب حول العالم ويزيد معها فرص استخدام أسلحة فتاكة، يبقى سؤال ملح يفرض نفسه: كيف يؤثر استخدام الأسلحة بصورة “جنونية” في المنظومات البيئية في المديين القريب والبعيد؟

تأثير الأسلحة في التربة

بحسب كبير متخصصي إدارة المشاريع والموارد المائية والزراعة في الأمم المتحدة، أحمد دياب، فإن للحروب أخطاراً متعددة على المنظومة البيئية، من تلوث التربة والهواء، كما يمتد أثرها ليصل إلى الخزانات الجوفية، وتؤدي بالتبعية إلى تجمع كميات مهولة من المخلفات. وأضاف دياب أن إسرائيل، على سبيل المثال، أقامت تجمعات لمعالجة مياه الصرف الصحي في مناطق الكثبان الرملية التي تطل على غزة، ومنعت مياه وادي غزة من الدخول وتغذية الخزان الجوفي، ونتيجة عدم وجود منظومة صرف صحي في القطاع فإن جميع تلك المسببات أدت إلى تسرب الملوثات إلى باطن الأرض.

يشرح دياب تأثيرات الحروب في البيئة متطرقاً إلى الوضع البيئي الراهن من جراء الحرب في القطاع التي تدخل شهرها الثاني بالقول إن “الهجمات العسكرية الإسرائيلية أدت إلى تدمير البيئة بشكل شبه كامل في غزة، كما تأثرت الشواطئ بتلك الملوثات، نتيجة تسرب المياه الجوفية نحو الساحل”.

وتابع دياب “كذلك سببت الحروب تدميراً للبيئة بشكل كامل من هواء ومياه وتربة، وتشكل المخلفات أيضاً خطراً صحياً على السكان، وانتشار الجثث تحت الأنقاض يمثل مصدراً للأمراض الوبائية”.

مياه ملوثة

يسلط تقرير لمنظمة “يونيسف” في مارس 2019 في إطار حملة تحت عنوان “مياه تحت القصف” الضوء على تعرض موارد المياه ومنظومات توصيل مياه الشرب إلى الهجوم والقصف، إذ يشير إلى أن الاعتداءات المتعمدة والعشوائية على مرافق المياه والصرف الصحي؛ وعلى إمدادات الطاقة اللازمة لعملها، يمكن أن تمثل انتهاكات للقانون الدولي الإنساني. وأضاف “عندما يتم تسميم مصادر المياه يتحول الماء إلى سلاح. ويشمل ذلك رمي جثث البشر أو الحيوانات في الآبار لتلويث إمدادات المياه كتكتيك لمنعها عن مجتمع محلي معين”.

ويوضح دياب أن “الملوثات الناتجة من المياه الجوفية تبقى ما بين 25 و50 سنة، وبعض الملوثات التي تصل إلى التربة تظل فترات أطول، لكن تلوث الهواء نتيجة للحروب يمكن أن تتلاشى آثاره السلبية بعد بضع سنوات، إذ تظهر التأثيرات السلبية في الكائنات البشرية والحيوانية الموجودة بالمناطق المتأثرة بالدمار”.

تهديد الخزانات الجوفية

حول أخطار استخدام الأسلحة المحظورة، أشار المتخصص البيئي إلى أن بعض الأمراض يمكن أن تنتقل إلى السكان نتيجة استخدام مواد قد تكون محظورة دولياً، ما يؤثر في الأجنة والصحة العامة، ويمكن لتلوث المياه أن ينتقل إلى مسافات بعيدة في حال إذا كان الخزان الجوفي يربط بين بعض الدول.

وشرح دياب أن الخزان الجوفي الملوث في غزة يرتبط بمدينتي رفح والعريش المصريتين، ويؤثر في معدلات التلوث هناك. وأوضح أن الأسلحة المستخدمة في الحروب تجعل هناك مواد مشعة وضارة تؤثر في مياه الشرب بشكل مباشر حال لم تتم معالجتها، ما يتسبب في تراكم السموم وانتشار الأمراض الوبائية. ومن بين الأخطار البيئية أيضاً -وفق دياب- استهداف أماكن تخزين البترول، وقصفها حيث تتسرب مخلفات إلى باطن الأرض وتبقى آثارها ممتدة مئات السنين.

ضحية صامتة

يقول المستشار البيئي محمد عبدالحميد في تقييم الأثر البيئي، إن استخدام الأسلحة الفتاكة والغازات السامة يدمر المنظومات البيئية، ويرتبط حجم التأثير والضرر بشكل مباشر بنسبة الدمار التي تحدث.

وفي محاولة أممية لمواجهة تلك الأزمة اعتمدت جمعية الأمم المتحدة للبيئة في 27 مايو 2016، قراراً اعترفت فيه بدور النظم البيئية السليمة والموارد المدارة بشكل مستدام في الحد من أخطار النزاعات المسلحة. وأكدت التزامها القوي التنفيذ الكامل لأهداف التنمية المستدامة المدرجة في قرار الجمعية العامة 70/1.

وتشير منظمة الأمم المتحدة إلى أنه على رغم حرص البشر على قياس خسائر الحروب بعدد القتلى والجرحى بين الجنود والمدنيين وبما تم تدميره من مدن وسبل الحياة، تبقى البيئة، في كثير من الأحيان، ضحية غير معلنة للحرب، بتلويث آبار المياه، وإحراق المحاصيل وقطع الغابات وتسميم التربة وقتل الحيوانات لتحقيق المكاسب العسكرية.

يشير المتخصص البيئي محمد عبدالحميد إلى أن الأسلحة تسبب انبعاثات وجسيمات تظل عالقة في الهواء، ويؤثر ذلك بشكل كبير في المنظومة البيئية بأسرها، ويؤدي إلى تدمير مظاهر الحياة. وتابع “تتلوث المياه، ويمكن أن تتداخل تلك الصالحة للشرب مع مياه الصرف الصحي الملوثة أو تتسرب المياه الملوثة إلى المياه الجوفية، ما يزيد من حجم تلوثها وتأثيرها في البيئة، وتؤدي الحروب إلى نضوب الموارد الطبيعية”.

قوانين متأخرة

وفق دراسة الباحثة الجزائرية، خديجة بركاني، فإن البيئة الطبيعية بمختلف عناصرها تشكل عاملاً استراتيجياً ذا أهمية خاصة في العمليات العسكرية، ما يجعل منها ضحية صامتة مفضلة للمحاربين. وأشارت في دراسة أنجزتها بعنوان “الحروب على البيئة الطبيعية من منظور القانون الدولي” إلى أن صور استهدافها تنوعت وتعددت من حروب يكون الضرر البيئي لها ممتداً في المكان ومستمراً في الزمان، وحروب أخرى تتضمن استعمال تقنيات تغيير جيوفيزيائية ومناخية لتحقيق أغراض عسكرية مثل التسبب في هزات أرضية والتلاعب بالطقس.

وسلطت الباحثة الضوء على عدم اهتمام القانون الدولي الإنساني الاتفاقي أو قانون التحكم في التسلح بالبيئة الطبيعية كضحية للنزاعات المسلحة إلا متأخراً، كما لم يظهر أول النصوص التي توفر لها حماية إلا عام 1976 من خلال اتفاق إنمود، وكذلك عام 1977 من خلال المادتين 53/3 و55 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقات جنيف. وعلقت قائلة “ظلت هذه النصوص لا توفر إلا حداً أدنى للحماية المباشرة ولم تعرف تطوراً لاحقاً ملموساً وذا شأن، ما جعلها قاصرة ولا تتأقلم بالشكل المطلوب مع ما استحدث من أساليب ووسائل قتال خطرة على البيئة”.

ومن جهته يؤكد مستشار برنامج المناخ العالمي، مجدي علام، أن أدوات الدمار الشامل تقضي على الأخضر واليابس، وتدمر الأراضي المزروعة وتضر بالحيوانات والطيور والأشجار.

وأشار علام إلى أن مظاهر التلوث البيئي تظهر على الغلاف الجوي والمحيطات والسطح الأرضي، وتؤدي في نهاية المطاف إلى تأثيرات مباشرة في الصحة العامة، وعدم صلاحية الطعام بسبب آثار الأسلحة التي تظل في التربة، من ثم تتأثر الزراعات بالسموم والمواد الكيماوية المستخدمة.

ويؤكد الخبير البيئي أن آثار المواد الكيماوية المستخدمة في الحروب تبقى مدداً طويلة في الآبار والتربة، وتدمر الزراعات، وتتزايد مع النزاعات المسلحة انبعاثات التلوث. وكذلك الأسلحة المستخدمة في الحروب والقصف المستمر وما يتخلله من حرائق يمكنه أن يزيد من ظاهرة الاحتباس الحراري، منوهاً بأن الحرب في غزة، على سبيل المثال، أفرزت أطناناً من الغازات التي تسبب احتباس الحرارة.

لكن الخبير في التغيرات المناخية، سمير طنطاوي، يرى أن الحروب ليس لها تأثير في الانبعاثات المسببة لتغير المناخ بشكل كبير، وتأثيرها في هذا الشأن محدود للغاية، لكنه أكد تأثيراتها المدمرة في البيئة.

وأوضح أن قنابل الفسفور الأبيض وما يماثلها من أسلحة محرمة دولية تمثل أخطاراً متعددة على البيئة، ما يتطلب معه تشكيل لجنة محايدة من خبراء دوليين تحت إشراف الأمم المتحدة لتقييم الآثار المدمرة للبيئة، على أن يستخدم تقرير اللجنة لاحقاً في تقدير الخسائر الاقتصادية تمهيداً للمطالبة بتعويضات.

المصدر: اندبندنت عربية